هَلَّت أيام يوليو مرة أخرى ومرت 63 عاما على تاريخ الشعب المصرى مع القدر، حين قام الجيش بثورة 23 يوليو بكل ما فيها من إنجازات كبرى وإخفاقات مؤلمة، ومع ذلك ظلت دون غيرها حاضرة فى ضمير الشعب، حتى لو تجاهلها البعض وكرهها البعض الآخر، إلا أنها بقيت عابرة للزمن، لأنها وضعت منظومة قيم جديدة وليس فقط مجرد إدارة حكم وبرنامج سياسى.
والحقيقة أن الجيش قام بحركته المباركة، كما وصفت أولا فى ذلك الوقت فى صبيحة يوم 23 يوليو، ونفس هذا الجيش تدخل لتنفيذ إرادة أغلب الشعب فى 3 يوليو 2013، وبين «التدخلين» جرت مياه كثيرة جعلت هناك استحالة لتكرار يوليو الأولى مرة أخرى، حتى لو كان هناك بعض جوانب الشبه فى وضع الأحزاب والنخب السياسية فى المرحلتين، بصورة جعلت تدخل الجيش أمراً سلساً، بل مطلوباً لدى قطاع واسع من المواطنين.
ومع ذلك فإن تجربة يوليو الأولى تظل مختلفة عن يوليو الثانية، وأى محاولة لاستنساخ 23 يوليو 52 مرة أخرى فى 23 يوليو 2015 ستكون نتائجها وخيمة على الجميع.
فثورة 23 يوليو أسست نظاما جديدا وبثت قيما جديدة، فى حين أن 30 يونيو و3 يوليو عدلت مسارا وأنقذت مصر من مصائر سوداء، ولكنها لم تبن مشروعا سياسيا من أى نوع، لا هى مع الديمقراطية ولا مع الاشتراكية، ولا هى تخوض معارك التحرر الوطنى على أرض الواقع كما جرى فى عهد عبدالناصر، والمؤكد أنه ليس بالهتافات الرديئة يمكن أن نفتعل معارك وخصومات ليست هى معارك العصر الحقيقية.
فالمطلوب من مصر الآن ليس الهتاف ضد أمريكا ولا طرد المستعمر (الذى طردنا بالفعل)، إنما تعلم التفاعل النقدى مع المنظومة العالمية وتكريس قيم المهنية والإنجاز والإصلاح المؤسسى داخل المجتمع، وهى أمور تحلها خطط علمية وليس هتافات «حنجورية».
المؤكد أن «23 يوليو» كانت تجسيداً حياً لنضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال والتحرر، والذى بدأ مع «العسكرى» أحمد عرابى، ثم بـ«المدنيين» سعد زغلول ومصطفى النحاس، وانتهى بجمال عبدالناصر، الذى انتمى نظريا للمؤسسة العسكرية، ولكنه فى نفس الوقت فعل عكس القواعد التى يفرضها انتماؤه لهذه المؤسسة حين بنى تنظيما سريا ثوريا اخترق به الجيش وقلب به نظام الحكم الملكى العتيد.
وعلى خلاف تجارب الجيوش الانقلابية فى أمريكا الجنوبية وأفريقيا وتركيا، عرفت مصر تجربة «الضباط الثوريين»، الذين أسسوا تنظيمات سرية مثل نظرائهم المدنيين، وقاموا بالثورة على النظام القائم.
ومن هنا كان تحرك تنظيم الضباط الأحرار فى ثورة يوليو ضد قيادة المؤسسة العسكرية نفسها ومنقلبا عليها وعلى نظام الحكم، وليس مثل تحرك قادة المؤسسة العسكرية فى جيوش أمريكا الجنوبية ضد نظم منتخبة وشرعية فى كثير من الأحيان.
إن «أيام يوليو» تعنى بالنسبة لأغلب المصريين ترسيخ قيم جديدة: التحرر الوطنى، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، وهى كلها قيم أهدرت فى العقود الثلاثة الأخيرة، فقد نجحت ثورة يوليو فى تحقيق الاستقلال الوطنى وإعلان الجمهورية، وأقامت نظاماً سياسياً جديداً على أنقاض النظام القديم، وصاغت عقدا اجتماعيا حصلت بمقتضاه على «توكيل» من الجماهير للدفاع عن مصالحها وتقديم الحلول نيابة عنها فى كثير من الأحيان.
وقد كان عصر يوليو هو فى الحقيقة عصر الثورات التحررية الكبرى فى العالم الثالث كله، بدءا من الصين، مروراً بأفريقيا وآسيا، وانتهاء بأمريكا الجنوبية، وقادت مصر هذه الحقبة التى قضت على عروش كثيرة وأنهت عصر الاستعمار. وقد صُمم نظام يوليو بصورة مخالفة للنظام الذى عجز عن إنجاز الاستقلال، فالأحزاب تم حلها، لأنها عجزت عن تحقيق الاستقلال الوطنى وتواطأ بعضها تارة مع القصر وتارة مع الاحتلال، والدستور الذى لم يُحترم كثيرا إبّان العهد الملكى تم «تبديله» بشرعية ثورية أسست لنظام جديد على أسس ثورية لا دستورية.
صحيح أن ثورة يوليو لم تكن ديمقراطية، فقد أسس عبدالناصر نظاماً غير ديمقراطى قام على الحزب الواحد، وتساوى مع زعماء العالم الثالث «المدنيين»، الذين أسسوا نظما سياسية تقوم على الحزب الواحد أيضاً، متصورين أن مواجهة الاستعمار فى الخارج وتحقيق التنمية فى الداخل يتطلبان نظماً تعبوية من هذا النوع، وتساوت التجارب الاشتراكية والرأسمالية، و«المدنية» و«العسكرية»، وبدت الهند استثناء واضحاً من كل تجارب التحرر الوطنى بتأسيسها تجربة ديمقراطية لم تخلُ من مشكلات أيضاً.
من حق التيارات السياسية أن تختلف على أيام يوليو، فهناك مَن يرفضها بالكامل، وهناك مَن يؤيدها بالكامل، وهناك مَن يؤيد أو يرفض بتحفظ، فكل هذا مشروع فى عالم السياسة، ولكن ما يجب أن نتفق عليه جميعا بصرف النظر عن اللون السياسى والحزبى أن «يوليو التحرر الوطنى» هى جزء مشرق من التاريخ المصرى والعربى، وأن احترام نضال أجيال سابقة من المصريين والعرب دفعوا أرواحهم ثمنا لهذا الهدف هو جزء من الذاكرة الوطنية التى لا يجب على أى بلد يرغب فى التقدم أن يتخلى عنها.