بدأت كخناقة هوائية بين اثنين إعلاميين أعلن على أثرها رئيس الجمهورية أنه ينوى إصدار قانون، فى غيبة البرلمان، يجرم فيه إهانة ثورة يناير،
وتفاوتت ردود الأفعال بين مؤيد لهذا التوجه من مؤيدى الثورة وبين معارض من كارهيها، ولكن الجديد أن هناك من معسكر المناصرين لثورة يناير من
رفض هذا التوجه بشدة، مثلما كان هناك مؤيدون من معسكر رافضى الثورة باعتبار أن ما يقوله أى رئيس هو الحق والصواب.
نعم يجب التوقف عن إهانة ثورة يناير وليس نقدها ولا الهجوم على رموزها ولا حتى انتقاد فكرة الثورة نفسها وما آلت إليه أوضاع البلاد نتيجة
الممارسات الثورية التى أعقبت يناير، فهى كلها أمور طبيعى أن تناقش وتنتقد ولا يمكن التعامل على أن نقدها يعنى إهانة الملايين التى نزلت فى
الشوارع.
والحقيقة نحن بحاجة إلى التوقف عن إهانة أى عمل إيجابى وعظيم يقوم به الشعب المصرى، فقد اعتاد بعضنا أن يكره أى إنجاز أو فعل ينقل البلد ولو
خطوة للأمام، حتى أصبح تاريخنا عبارة عن كوابح داخلية تشككنا فى كل أعمالنا الكبيرة.
فمثلا دور محمد على الحاسم فى تأسيس الدولة الوطنية الحديثة تاه فى ظل تفاصيل شابت حكمه ورددها البعض، وكأن الهدف هو طمس الجانب المضىء
من تجربته، ونفس الأمر ينسحب على سعد زغلول ومصطفى النحاس وحزب الوفد، قلب الحركة الوطنية المصرية، فالقضية ليست فى أخطاء الوفد إنما
محاولة هدم إيمان أغلب الناس بدوره، واعتبار أن الشعب كان مخطئاً فى اختياره.
وجاء عبدالناصر وألف الإخوان وغيرهم قصصا وحكايات حول حكمه، ودخلنا فى دهاليز وتفاصيل حتى ينسى الناس القيم والمبادئ التى عبر عنها فى
التحرر الوطنى والاستقلال واستقامته الشخصية ونزاهته النادرة، فقناة السويس التى أممها وغير بها خريطة العالم كانت ستعود لنا بعد 99 عاما من
افتتاحها، فلماذا أممها إذن، وكأن المطلوب أن تبقى شعوبنا خانعة ومستكينة وقتل إيمان الملايين بما يفعلونه ويؤمنون به باعتباره دائماً خطأ.
ما يجرى مع يناير هو موقف شبيه بما جرى فى السابق، لقد قام الشعب المصرى بأعظم وأنبل تحرك شعبى له منذ عقود، ونجح فى إسقاط نظام مبارك
الذى عرف فسادا وإفسادا ورتب توريثا، وبعدها ارتكبت قلة ممن شاركوا فى الثورة أخطاء وخطايا، وظهرت قلة أخرى حولت الثورة إلى مهنة ووظيفة،
وقله ثالثة إلى فرصة للصعود الاجتماعى دون أى إمكانات إلا المزايدة وشتيمة خلق الله.
وفى مواجهة هذه القلة ظهرت قلة أخرى اعتبرت أن ثورة يناير مؤامرة، وبدأ سيل الإهانات على ملايين من المصريين الذين نزلوا فى الشوارع،
ولولاهم لما جاء السيسى رئيساً، ولا سقط مرسى، ولا أصبح هناك مكان لكثير من الإعلاميين صنعوا جمهورهم من خلال اهتمام الناس بالسياسة الذى
صنعته يناير.
فى مصر نحن نجرم إهانة القضاة ورئيس الجمهورية والجيش وندين السب والقذف فى حق أى مواطن، وفى نفس الوقت استبحنا شتيمة الملايين من
المصريين واتهامهم بأبشع الألفاظ لأنهم نزلوا نيابة عن كثيرين ورفضوا الظلم والاستبداد، وترك البعض مشهد شباب مصر الرائع الذى نزل فى 12
فبراير بالآلاف ينظف كل الميادين معلناً أنه دقت ساعة العمل، ليصدع دماغنا بانحراف العشرات.
إهانة الشعب المصرى يجب أن تجرم، ويناير هى أعظم ما قدمه الشعب المصرى منذ عقود، أما رموز الثورة والتيارات المحسوبة عليها وممارسات ما
بعد يناير، بل وحتى فكرة الثورة نفسها فمن حقك أن تنقدها وترفضها بالكامل، وتقدم بديلك الإصلاحى الرافض للثورة، ولكن لا تتهم الملايين الذين
شاركوا فيها بالتآمر والخيانة.