فى مثل هذا الشهر من عامين سقط 54 طفلا ضحايا الإهمال والتسيب فى عهد الرئيس السابق محمد مرسى حين صدم قطار أسيوط الحافلة التى كانت تقلهم أثناء عبورها «مزلقان مهجور» فى إحدى قرى محافظة أسيوط، وفى نفس الشهر سقط، أمس، 20 تلميذا ضحية الإهمال والفوضى وغياب المحاسبة على طريق البحيرة حين اصطدمت الحافلة التى تقلهم بثلاث سيارات أخرى فاشتعلت النيران وتفحمت جثث التلاميذ الأبرياء حتى بدت الصورة بلا أى تغير، فنفس أداء الدولة لم يتغير حتى لو تغير الأشخاص وتغيرت النوايا، أما مؤسساتنا فقد بقيت على حالها.
وإذا كان واقع مؤسسات الدولة صعبا ومأزوما إلا إن هذا لا يمنع من أن الدولة المصرية حمت البلاد من أخطار كثيرة، وأن إصلاحها والحفاظ عليها هو الطريق الوحيد لاستمرارها فى أداء مهامها والوقوف أمام التحديات التى تواجهها نتيجة الضعف الذى أصاب معظم مؤسساتها.
والمؤكد أن هذه الدولة أفرزت رجالات دولة كباراً فى العهد الملكى والعهود الجمهورية على السواء ومازال الكثيرون يتذكرون أسماء كبيرة عملت فى دولة عبدالناصر بكفاءة ومهنية منقطعة النظير، وحين قرر الرجل أن يستقيل وأعلن بشجاعة أنه يتحمل بصورة كاملة مسؤولية هزيمة 67 فإن الرموز السياسية والفكرية التى كانت قادرة على إدارة البلاد فى لحظة غيابه كانت لا تحصى فى كل المجالات العلمية والثقافية والسياسية.
واستمر الحال فى عهد الرئيس السادات حتى لو أصاب الدولة بعض التراجع إلا أنها ظلت مفرخة لكثير من قيادات الحكم والإدارة، وجاء عهد مبارك وتسلم بلدا «مقشرة» وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل ولم تدخل فى أى حروب ولم تعرف اقتصاد الحرب ولا ثمنها، ونجحت فى تحرير أرضها بالحرب والسلام (مهما كانت مثالب اتفاقية كامب ديفيد)، وبدأ مبارك عهده برجالات دولة كبار واعتمد على عقول كثيرة كالراحل أسامة الباز ود. مصطفى الفقى، ود. مفيد شهاب، وأيضا أسماء تولت مواقع قيادية كبرى مثل د. كمال الجنزورى والسيد عمرو موسى وغيرهم الكثير والكثير.
الدولة المصرية ظلت زاخرة بالكفاءات السياسية والمهنية بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف مع توجه نظامها السياسى، حتى عرفت تدهورا كبيرا وصل لحافة الانهيار فى نهايات عهد مبارك، وشهدنا مظاهر الفوضى والعشوائية والتسيب فى كل مناحى الحياة وغياباً كاملاً للكفاءات.
إن الطبعة الأخيرة من دولة مبارك التى لاتزال تحكمنا وتدير أمورنا دون أن تتغير هى المسؤولة عن سقوط تلاميذ قطار أسيوط فى عهد مرسى وهى نفسها، بإهمالها، المسؤولة عن سقوط 20 تلميذا فى عمر الزهور فى عهد السيسى رغم أنه انتفض مع غالبية الشعب فى مواجهة العهد السابق.
للأسف لم نر مسؤولاً واحداً يقول لنا متى نحل أزمة الطرق ومتى نزحزح مصر من المرتبة الأولى عالميا فى ترتيب الدول التى يسقط فيها ضحايا على الطرقات، وهل لدينا خطة لتحسين هذه الطرق كأولوية أولى قبل بناء شبكات جديدة؟ وهل لدينا تصور لإصلاح إدارى وربما كادر خاص لمن يعملون فى السكك الحديدية، خاصة المرتبط بعملهم أرواح الناس.
ما يجرى الآن ونتيجة التحديات السياسية وضغوط الإرهاب هو أننا قررنا ألا «نزعل» أحدا داخل الدولة وأبقينا «الطبعة الأخيرة» تدير أمورنا حتى يقف البلد على أقدامه، ثم نفكر فى عملية الإصلاح.
والحقيقة أن هذا التصور لن يجعل البلد يقف على أقدامه، وسندخل فى مزيد من المشاكل بأسرع مما يتصور الكثيرون، لأن الدولة الوطنية المصرية، التى عرفناها منذ أكثر من قرنين، لم تبن نظما ديمقراطية فى العهد الملكى، رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى، رغم ثوريته، إنما تركت مؤسسات دولة تعمل بكفاءة ولو نسبية، وقانونا يطبق فى كل المجالات إلا ربما المجال السياسى إلى أن جاءت الطبعة الأخيرة وعرفت الجمود والتدهور الكبيرين.
الطبعة الأخيرة شهدت تجريفا فى التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات، والزراعة والصناعة بحيث من المستحيل أن تستمر بهذه الطريقة، وأن تأجيل عملية إصلاح المؤسسات من داخلها وبشكل تدريجى والاستعداد لدفع «الثمن السياسى» لهذه الإصلاحات مهما كانت صعوبة الموقف أمر لا بديل عنه.
التحدى ليس فى ترديد شعارات مواجهة التسيب والإهمال والفساد، وهى كلها شعارات براقة لا تسمن من جوع لأنك لن تستطيع أن تقوم بتلك المهام إلا إذا اقتنعت بأن الطبعة الأخيرة من دولة مبارك غير قادرة على القيام بتلك المهام بل ربما لن تكون قادرة على الحفاظ حتى على نفسها ومواجهة أى خطر وبناء أى بديل وإعطاء أى أمل.
فلنبدأ بمحاربة السوس الذى ينخر فى الجسد المطلوب منه محاربة الإرهاب ومواجهة الإهمال وتطوير الصحة والتعليم قبل فوات الأوان.