علاقات الدول تقوم على المصالح والمنفعة المتبادلة، أمر بديهى لا خلاف عليه، وهناك مع المصالح اعتبارات أخرى تقويها أو تضعفها، فلا توجد مصالح تتحرك فى الهواء الطلق دون بيئة مجتمعية محيطة تؤثر فيها.
والحقيقة أننا اخترنا منذ سنوات مبارك وحتى الآن القنوات الرسمية للتواصل مع الغرب، ولا نملك أى تأثير يذكر على الدوائر المؤثرة فى السلطة وعلاقات المصالح (مثل مراكز الأبحاث، الإعلام، النخب السياسية والثقافية)، فنحن ندخل مباشرة فى الموضوع ونتكلم فقط فى البيع والشراء وجذب الاستثمار والصفقات التجارية.
وقد نجح النظام المصرى بدرجة كبيرة فى إقناع كثير من دول العالم بأنه قوى ومستقر، وأقام مؤتمرا اقتصاديا جذب زعماء دول العالم ورؤساء عدد كبير من الشركات العالمية للمشاركة فيه، وعقد مؤتمر القمة العربية فى مصر، وتحدث عن افتتاح «أسطورى» للمجرى الثانى لقناة السويس يدعو فيه قادة العالم.
والمؤكد أن هذا النوع من الأنشطة كان رسالة جذب من أجل «المصالح المشتركة» بيننا وبين الدول الكبرى، واعترافا رسميا وماليا بالنظام الجديد فى مصر بعد عام من التشكك والريبة وأحيانا الرفض. وشهدنا دعوة الرئيس للذهاب إلى ألمانيا الشهر القادم بعد موقف ألمانى رسمى مناوئ للحكومة المصرية، وقبلها زار الرئيس فرنسا، ووقع على عقد شراء طائرات «رافال» الفرنسية الشهيرة، ثم عاد مؤخرا وذهب إلى إسبانيا واستقبله الملك والملكة وباقى أركان الحكومة ودعا الشركات الإسبانية للاستثمار فى مصر.
التحركات المصرية كلها تدور فى المساحة الرسمية وفى إطار تنمية المصالح المشتركة وجذب استثمارات خارجية لمساعدة الاقتصاد المصرى على النمو، متمسكة بالدعاية السياحية عن شمس مصر وعظمتها وقدرتها على جذب الاستثمار دون أن تمتلك أى قدرة على التأثير فى الشبكات المعقدة والكثيرة المحيطة بالسلطة السياسية فى الغرب.
فمثلاً معظم الصحافة الغربية الكبرى، وأيضا معظم الجمعيات الحقوقية ومراكز الأبحاث والجامعات الكبرى، تنتقد بدرجات متفاوتة الحدة الأوضاع داخل مصر، فمثلا صحيفة «البايس» الإسبانية ( Elpais)، وهى تعد الصحيفة الأولى هناك، وواحدة من كبريات صحف العالم، نظرا لأنها تُقرأ فى كثير من الدول الناطقة بالإسبانية فى أمريكا الجنوبية، وصفت الرئيس المصرى أثناء زيارته الأخيرة لإسبانيا بـ«الديكتاتور»، وكتبت تحقيقا مطولا ينتقد بقسوة شديدة الأوضاع السياسية فى مصر.
وقبلها نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية الشهيرة مقارنة بين الرئيس المصرى وديكتاتور شيلى الأسبق بينوشه، ورصدت 4 جوانب، اعتبرت على أثرها أن الأخير أفضل من الرئيس، وهناك أيضا معظم أوراق مراكز الأبحاث الكبرى فى الغرب، خاصة مؤسسة «كارنيجى» للسلام الأمريكية التى لديها انتقادات كثيرة على النظام المصرى.
والحقيقة أن هناك خطا عاما فى خارج الأوساط الرسمية يرفض بشكل واضح الأوضاع السياسية فى مصر، فى حين أن الحكم تعامل مع هذه المؤسسات مثلما يتعامل مع الإعلام والتيارات السياسية ومعظم القوى الحية فى المجتمع المصرى، أى كأنها غير موجودة وغير مهمة، لأنها حسمت هدفها منذ البداية فى التواصل مع دوائر السلطة والمال كطريق لحل مشاكلنا الاقتصادية، وبعدها يمكن التفكير فى فتح الملفات الأخرى.
ولعل الأمر الذى يحتاج إلى تأمل هو أن النقد الغربى لدول الخليج العربى، خاصة السعودية وقطر، لغياب الديمقراطية أو للاعتراض على النموذج السياسى نفسه، أخف كثيرا من النقد الذى يوجه للحكم الحالى فى مصر، وهو أمر له أكثر من دلالة قد نجتهد فى تفسيره فى سياق آخر.
والحقيقة أن خيار سلطة تخاطب سلطة من أجل تحقيق المصلحة المشتركة دون امتلاك رؤية أو مشروع سياسى لن يحقق، لا على المدى الطويل ولا المتوسط، أى تقدم اقتصادى حقيقى، فمصر الرسمية ليس لديها فكرة تقدمها للعالم، كما فعل الأتراك بالحديث عن الإسلام المعتدل، ولا الإيرانيون حين طرحوا أنفسهم كنموذج ممانع وثورى دافعوا به عن مصالحهم، ولم تقدم مشروعا سياسيا واقتصاديا أنجز على الأرض بشكل عملى مثلما فعل مهاتير محمد فى ماليزيا أو لولا دى سيلفا فى البرازيل، إنما هى تتحدث عن علاقات تجارية واقتصادية مع العالم وفقط، وهى أمور أساسية لا جدال فى ذلك ولكنها يقينا غير كافية.
وضعية مصر السياسية والمجتمعية لا تسمح لها أن تكون كوريا الجنوبية مثلا التى تُعرف (بضم التاء) بأسماء شركاتها الكبرى وليس سياسييها وأحزابها ومجتمعها الأهلى، ولا الإمارات العربية التى تعيش فى وفرة اقتصادية جعلت عنوان تقدمها الاقتصاد والإدارة والمهنية وليس الحياة السياسية، وهى كلها حالات استثنائية لم تعرفها دول الغرب والشرق معا ولا تصلح للحالة المصرية.
مصر الرسمية اختارت حديث الأرقام والمصالح، وعملت كأنها لا تسمع ما يوجه لها من انتقادات حادة، صحيح أنها لا تمتلك الكوادر الكافية للاشتباك مع ما تقوله القوى الناعمة فى الغرب، لأن كتائب «التطبيل» فى الداخل تصلح فقط فى الهتاف وحديث المؤامرة، كما أنها بلا مشروع ولا رؤية سياسية، وبالتالى هى غير قادرة على جذب المقتنعين بالنظام، لأن هذا سيلزمها أيضا باحترام المخالفين.
علينا أن نتذكر أن صانع القرار فى الغرب على عكس عندنا، يتأثر بالقوة الناعمة المحيطة به (مثقفين وصحفا ومراكز أبحاث) وليس فقط الشركات الكبرى، وعلينا أن نتذكر أن عبدالناصر الذى اصطدم بمراكز النفوذ والسلطة فى الغرب ربح معركته فى 1956 لأن أصوات الضمير فى العالم كله وقفت معه، أما نحن فعلينا أن نجيب عن السؤال: لماذا تقف الغالبية العظمى من المؤسسات الصحفية والبحثية، وتقريبا كل المثقفين الكبار فى الغرب، ضد النظام السياسى المصرى؟.. سؤال يحتاج إلى إجابة بعيدة عن أنهم متآمرون أو عملاء.