عمرو الشوبكي
استمر النقاش طوال فترة عمل لجنة الخمسين حول وضع نص دستورى ينظم الانتخابات البرلمانية، ودار نقاش عميق تضمنته مضابط اللجنة بين ثلاث رؤى: الأولى ترى ضرورة أن تكون الانتخابات البرلمانية بنظام القائمة، والثانية ترى ضرورة أن تكون وفق النظام الفردى، والثالثة ترى ضرورة أن يكون قوام العملية الانتخابية هو النظام الفردى المطعّم بالقوائم.
وأذكر أنه حدثت مناظرة بين كاتب هذه السطور ود. محمد أبوالغار، رئيس الحزب الاجتماعى الديمقراطى، داخل لجنة الخمسين حول هذا الموضوع، وكان الرجل أمْيَل لنظام القوائم، وعرضت أثناء النقاش مبررات وحجج كل تيار فى واحد من أكثر حوارات النخبة السياسية ثراءً وتنوعاً.
والحقيقة أن أهم ما أسفر عنه هذا النقاش، لأنه ضم سياسيين وخبراء قانونيين ونقابيين، هو الاقتراب من تصور شرفت بتقديمه وتوافق عليه معظم أعضاء اللجنة، ويقوم على اعتماد نظام انتخابى قوامه النظام الفردى بنسبة الثلثين مُطعّماً بنسبة الثلث قوائم. وقد دار نقاش طويل حول النسب، واقترح د. السيد البدوى، رئيس حزب الوفد، أن تكون النسبة مناصفة، أى 50% فردى و50% قوائم، وبعد حوار وجدل مع تيار يُعتد به داخل اللجنة كان يرى ضرورة أن تكون الانتخابات كاملة بنظام الفردى- جرى توافق على أن تكون نسبة الفردى هى الغالبة لاعتبارات تتعلق بالواقع الانتخابى والسياسى، وأن تطعم بنسبة الثلث قوائم على مستوى كل محافظة. صحيح أنه فى التصويت النهائى لم ير هذا المقترح النور، وحصل فقط على 27 صوتاً مقابل رفض 11 عضواً له، بما يعنى أنه لم يحصل على نسبة الـ75% المطلوبة لاعتماد أى نص دستورى.
والحقيقة أن هذا الاقتراح القائم على نظام انتخابى فردى بنسبة الثلثين، وفق الدوائر المستقر عليها فى مصر (ما عدا الدوائر الحدودية)، بحيث يكون هناك مقعدان لكل دائرة بدلاً من تلك الابتكارات العجيبة، واختراع تقسيم جديد للدوائر يضم مقعداً ومقعدين وثلاثة، ثم تطعيم هذا النظام الفردى (القائم على مقعدين لكل دائرة) بنظام قوائم خاص بكل محافظة نسبتها الثلث، أى المحصلة النهائية ستكون ثلثين «فردى» وثلثاً «قوائم» للمحافظة.
وإذا كان البعض وجَّه انتقاداً للنظام الفردى على ضوء الخبرة السابقة، واعتبر أنه يفتح الباب أمام العصبيات العائلية والرشاوى الانتخابية، وهو أمر لا علاقة له بالنظام الفردى (المطبق فى أغلب دول العالم الديمقراطى) بقدر ما له علاقة بالنظام السياسى، فشراء الأصوات الذى راج فى عهد مبارك كان يرجع لغياب الناخبين وحضور المرتشين، فنسبة التصويت الحقيقية فى المدن لم تتجاوز الـ5%، وهو أمر حدث عكسه فى كل الانتخابات التى جرت عقب ثورة يناير حين قاربت من الـ50%، وهى نسبة يستحيل أن يؤثر فيها شراء الأصوات كما جرى فى العهد الأسبق، إلا إذا أصر البعض على تصغير حجم الدوائر ووضع نظام انتخابى فيه نائب لكل 130 ألف ناخب، كما جاء فى القانون الذى قُدِّم أمام مجلس الوزراء.
والواضح أن المواطن المصرى بعد سنوات طويلة من التهميش يميل إلى النظام الفردى ويقبل بنسبة للقوائم لأنه يرغب فى أن يختار نوابه بنفسه دون أوصياء عليه يحددون له ترتيب القوائم من خلال أحزاب أو نخب مالية بشرط أن تكون هذه الدوائر معقولة المساحة حتى يستطيع أن يكون فيها صوت للنائب السياسى القادر على التأثير فى نصف مليون ناخب وليس جيرانه وعشيرته وعائلته، كما جاء فى الدوائر الصغيرة المنصوص عليها فى القانون الحالى.
أما القوائم فلابد أن تتجاوز صيغتين فى عمل القائمة: الأولى ما تم اعتماده فى انتخابات 2011 أى «قوائم الدائرة»، وتأثر ترتيبها بالنفوذ المالى والسياسى والعصبيات العائلية، والثانية هى قوائم الـ 4 قطاعات، وهى عبارة عن قوائم ممتدة تضم فى بعضها 10 ملايين ناخب وبها قائمة تمتد من الجيزة حتى حلايب وشلاتين، ويحدد أعضاؤها نخب القاهرة نيابة عن كل محافظة.
أما قائمة المحافظة التى لم ترَ النور فستعكس بدرجة كبيرة صراع الأفكار والبرامج الموجود داخل المجتمع المصرى، وأن نخبة القاهرة التى تختار نيابة عن الجميع مرشحى المحافظات سيتراجع دورها وستصبح الكلمة العليا لقيادات محلية وشخصيات عامة معبرة عن كل محافظة.
ويصبح النظام المقترح نظاماً يعتمد بالأساس فلسفة النظام الفردى ويقسم الدوائر الانتخابية بين مستويين: الأول هو الدوائر الفردية التى تعتمد تقريباً على مساحة الدوائر القديمة قبل انتخابات 2011 (نائبان لكل 500 أو 600 ألف ناخب)، وهنا سيدخل الاعتبار الشخصى والسياسى فى اختيار الناخب الذى سيشعر هنا بأنه يختار نائبه دون وصاية أو «كنترول» حزبى أو مالى، والثانى يعتمد على قوائم نسبية مفتوحة على مستوى كل محافظة وليس قطاعات كما هو مقترح الآن. المؤكد أن هناك نقاشاً بين الأحزاب الرئيسية حول النسب المقترحة، ولكن الأساس أن تكون هناك رؤية سياسية للعملية الانتخابية والقوانين المنظمة بشكل محايد، لأنه لا يوجد حتى الآن حزب حاكم يفصّل القوانين على مقاسه، وهى فرصة قد تساعدنا على بناء حياة سياسية قوية وبرلمان يعبر عن التنوع الموجود داخل المجتمع المصرى ويفتح الطريق أمام أغلب القوى السياسية لتعبر عن نفسها داخل البرلمان لا خارجه.