نجح الشعب التركى فى وقف زحف رجب طيب أردوجان نحو السلطة المطلقة، وقدم تجربة ديمقراطية تستحق الإشادة، بعد أن عاقب حزب العدالة والتنمية الحاكم على ممارساته التسلطية، وجعله يفقد حوالى 12% من أصوات الناخبين، لينهى أحلام أردوجان فى تغيير الدستور وتشكيل الحكومة منفردا.
وقد حصل حزب أردوجان على 40% من أصوات الناخبين ليبقى فى المركز الأول، ولكنه فقد أغلبيته المطلقة التى كان يعوّل عليها من أجل تغيير الدستور وبقاء أردوجان الأبدى فى السلطة كرئيس مطلق الصلاحيات، وجاء حزب الشعب الجمهورى، حزب المعارضة الرئيسى فى المركز الثانى، وحصل على 25%، ثم الحزب القومى (الذى يقع فى أقصى اليمين)، وحصل على حوالى 16% من أصوات الناخبين، ثم أخيرا حزب الشعوب الديمقراطية، المدافع عن حقوق الأكراد، وحصل على 12%، ليصبح أول حزب كردى يدخل البرلمان ويتجاوز عتبة الـ10% المفروضة من أجل التمثيل فى البرلمان.
خسارة حزب العدالة والتنمية كبيرة، ولكنها خسارة لم تقض عليه ولم تجبر زعماءه على المراجعة والنقد الذاتى، بل حمَّلوا الناخب التركى على طريقة الحكام المستبدين مسؤولية خسارة الحزب، لأنه قد يترتب عليها عدم استقرار سياسى، بسبب إما الفشل فى تشكيل حكومة ائتلافية، أو النجاح فى تشكيلها، وتكون مليئة بالخلافات والانقسامات الداخلية، وهو ما سيؤثر على الوضع الاقتصادى المزدهر، أحد أهم إنجازات حكم أردوجان.
تحدى تشكيل الحكومة والحفاظ على الاستقرار السياسى والاقتصادى، فى ظل نتائج الانتخابات التركية، تحد كبير سيواجهه الأتراك فى الأيام القادمة، خاصة فى ظل ألاعيب أردوجان وتهديداته، بعد أن أصيب بلوثة السلطة التى لم يعد قادرا على مغادرتها، ولكن التحدى أو بالأحرى الخطر الأكبر الذى أسقطه الشعب التركى فى هذه الانتخابات كان فى إفشال مخطط أردوجان فى حصول حزبه على نفس النسبة التى حصل عليها فى الانتخابات السابقة (حوالى 53%) وتشكيله- منفردا- الحكومة وتغيير الدستور.
والحقيقة أن الشعب التركى نجح بالديمقراطية فى أن يُسقِط الرجل الذى أراد أن يبقى 22 عاما فى السلطة بصلاحيات مطلقة، أى «شبيه مبارك» فى المنطقة، وليس راعى الديمقراطية وثورات الربيع العربى كما يدَّعِى، رغم القيود التى فرضها على حرية الرأى والتعبير ومحاولاته الدائمة لتوظيف الدولة لصالح حزبه الحاكم مثلما يفعل جيرانه العرب الذين طالما عايرهم بنظمهم غير الديمقراطية وبحكامهم الذين بقوا لعقود طويلة فى السلطة.
التحية واجبة للشعب التركى، ذى التاريخ العريق والديمقراطية الصامدة، رغم التحديات الكثيرة التى تواجهها، من انقلابات الجيش وفشل السياسيين وانتهاء بالإرهاب، لنجاحه فى إسقاط مشروع اختطاف تركيا لصالح حزب واحد، وأن يخرج من تجارب «الحزب المهيمن» فى تجارب ديمقراطية ناشئة أو متعثرة كثيرة، فقد عرفت المكسيك تجربة حزب حاكم مهيمن على السلطة 70 عاما، حتى نجح الشعب المكسيكى فى تغييره بالديمقراطية، وعرفت أيضا جنوب أفريقيا مع حزب المؤتمر الوطنى الحاكم تجربة أخرى منذ تخلصها من نظام الفصل العنصرى حتى الآن، وأيضا فى روسيا الاتحادية التى يحكم فيها حزب الرئيس بأكثر من 60%.
معضلة أردوجان وحزبه المهيمن تتمثل فى امتلاكه ماكينة انتخابية وسياسية كُفئة كانت مرشحة أن تُبقيه فى السلطة لسنوات طويلة، وتسمح له بالحصول على ما بين 50 و60 فى المائة من أصوات الناخبين، مثلما جرى فى تجارب سابقة لا علاقة لها بالعالم العربى والإسلامى.
والحقيقة أن أغلب مشاكل أردوجان لم تكن لها علاقة بتوجهاته الأيديولوجية المحافظة دينيا، إنما بالأساس غواية السلطة التى وقع فيها، بعد أن بقى 12 عاما رئيس وزراء، وأراد أن يبقى 10 سنوات أخرى كرئيس للجمهورية.
وعلى عكس ما يردد البعض بسطحية فى مصر، فتجربة العدالة والتنمية ليست لها علاقة تنظيمية بتجارب الإخوان المسلمين فى العالم العربى، وأردوجان بالقطع ليس جزءا من التنظيم الدولى للإخوان، إنما كان يرغب فى أن تكون له أذرع تابعة للمركز الحاكم فى اسطنبول، وكان حكم الإخوان إحدى هذه الأذرع التى كانت مجرد منطقة نفوذ تابعة لتركيا أردوجان، ولم يتصور أن الشعب المصرى سيسقطها مثلما لم يتصور أن الشعب التركى سيسقطه أيضا.
أردوجان حقق نجاحات اقتصادية وإصلاحات سياسية كبرى فى بداية حكمه، ولكنه تحول بعد سنوات البقاء الطويل فى السلطة إلى مشروع حاكم استبدادى بامتياز ردعته الديمقراطية التركية الصامدة والشعب التركى الكبير الذى نجح فى إبعاد- (ولا نقول إنهاء)- خطر السقوط فى تجارب حزب السلطة المهيمن، الذى ما إن يصل للحكم حتى يهندس القوانين ويوظف مؤسسات الدولة لصالح بقائه الأبدى فى السلطة عبر انتخابات حرة وغير مزورة.
لقد نجح الشعب التركى فى أن يحافظ على ديمقراطيته الناشئة ويُنَمِّيها، فلم يعرف- حتى فى انتخابات الرئاسة- رئيسا يحكم بـ 90%، وهو يعنى تلقائية خلل فى مكان ما داخل النظام السياسى، فقد فاز أردوجان العام الماضى بانتخابات الرئاسة، وحصل من الجولة الأولى على 52%.
لقد قدم الشعب التركى بنتائج انتخابات البرلمان درسا لشعوب كثيرة فى المنطقة، ونجح عبر نظام ديمقراطى ينمو كل يوم فى أن يوجه ضربة قاصمة لمشروع استبدادى جديد فى المنطقة، فهل سيتعلم الآخرون الدرس، وأن الديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية جناحان لا يمكن فصلهما، وأنه لا يوجد نظام سياسى حديث يبيد الخصوم والمناوئين؟
تحية للشعب التركى على تصويته واختياراته، رغم أن الصعوبات مازالت كثيرة.