عمرو الشوبكي
نجحت تونس، رغم الصعاب، وعبرت كثيرا من العوائق لتبدأ عملية تحول ديمقراطى حقيقية، وقطعت أكثر بقليل من نصف المسافة نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، وأجرت انتخابات رئاسية ديمقراطية، دلت المؤشرات الأولية على تقدم الباجى قائد السبسى، مرشح نداء تونس، على منافسه المنصف المرزوقى، رغم خطابه التحريضى والإقصائى المدعوم من الإخوان.
والمؤكد أن هناك جملة من الأسباب جعلت الخبرة التونسية تسير فى الاتجاه الصحيح، رغم التحديات الكثيرة التى مازالت تواجهها، مقارنة بتعثر التجربة المصرية وانهيار التجربتين الليبية واليمنية، وفشل الخبرتين السورية والعراقية.
فإرث تونس السياسى يختلف عن نظيره المصرى، من الناحيتين الاجتماعية والثقافية، ففى الأولى نسبة الأمية حوالى 15%، وفى مصر حوالى الثلث، أما الطبقة الوسطى فهى أكثر اتساعا فى تونس عن نظيرتها المصرية، خاصة فى ظل التفاوت الكبير فى عدد السكان بين البلدين (مصر 85 مليونا، وتونس 11 مليونا). صحيح أن نظام مبارك أعطى هامشا أكبر لحرية الرأى والتعبير مقارنة بنظام بن على إلا أن الأخير امتلك جهاز دولة محدود العدد وأكثر مهنية وكفاءة من نظيره المصرى، وعرف تعليما عاما وصحة عامة أفضل بكثير من مصر، ومساواة بين الرجل والمرأة، ومدنية أكبر للمجال العام، خاصة فى ظل انفتاح العمالة التونسية على أوروبا مقارنة بالحالة المصرية التى تركزت عمالتها فى دول الخليج العربى.
والحقيقة أن هذه الخلفية الاجتماعية التى مثلت خميرة أولية تساعد على النجاح، ولا تصنعه إلا بقدرة الفاعلين السياسيين على اتخاذ قرارات صحيحة وترتيب دقيق للأوليات- وَضَعت تونس على الطريق الصحيح رغم الصعوبات الكثيرة، فالتوافق الذى حدث بين الأطراف المدنية وحركة النهضة الإسلامية كان أهم ما فيه نقطتين غابتا عن الساحة المصرية: أولاهما الاتفاق على وضع قواعد دستورية وقانونية للعبة السياسية قبل البدء فى إجراء أى انتخابات سياسية والدخول فى معترك الصراع الحزبى، وثانيتهما تتعلق بوجود جماعة عقائدية سرية ومغلقة تحكم من وراء الستار، مثل جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وحزب حركة النهضة الذى ينتمى فكريا لمدرسة الإخوان المسلمين، إلا أنه اختلف عنها بصورة كبيرة، فى كونه «فاعلا حزبيا» لا تحركه جماعة سرية، ويوجد رئيس واحد لحركة النهضة، هو راشد الغنوشى، لا يوجد له مرشد ولا نائب مرشد ولا مكتب إرشاد يصدر له كل يوم أوامر، مطلوبا منه أن يسمعها ويطيعها.
فى تونس أيضا، هناك الاتحاد التونسى للشغل الذى يمتلك رصيدا شعبيا وتاريخا نضاليا ومهنيا كبيرا، سمح له بأن يلعب دورا رئيسيا فى المفاوضات التى دارت بين النهضة والقوى المعارضة، وهو ما غاب فى مصر، وجعل الاستقطاب يصل لمداه، لأنه لم يكن صراعا بين قوى وأحزاب سياسية كما هو الحال فى تونس، يمكن فيه الوصول إلى حلول وسط، إنما كان بين جماعة عقائدية مغلقة وأغلب الشعب المصرى.
لقد بدأت تونس مسارها منذ اليوم الأول بطريقة صحيحة: دستور أولا، ثم تنافس انتخابى ثانيا، فطبقت ما فعلته تجارب النجاح رغم التحديات.
لا يزال أمام تونس طريق طويل وصعب لبناء نظام ديمقراطى، فإدارة الخلافات السياسية بين فرقاء الساحة السياسية بطريقة ديمقراطية وسلمية ليست أمرا سهلا، خاصة فى ظل أجنحة داخل النهضة مازالت تعتبر مرشحها الخاسر هو مرشح الثورة، والمرشح المتقدم هو مرشح الثورة المضادة، فهذا يعنى أن هناك من لا يؤمن بالديمقراطية بشكل كامل من بعض أطراف الساحة السياسية التونسية.. وهذا هو التحدى الأكبر.