عمرو الشوبكي
فى كل مجال هناك أشخاص تعتبرهم جزءاً منك حتى لو لم تقابلهم ولو مرة واحدة، وهناك من يقومون بأعمال مختلفة تماماً عن، وتشعر أنهم قريبون جداً، حتى لو كانت مهنتك السياسة والكتابة وهم الفن والإبداع أو الطب والهندسة، فرغم الخلاف المهنى وعدم المعرفة الشخصية إلا أنك تشعر وكأن هناك رابطاً روحانياً ما يربطك بهم وتعتبرهم مثلك ولو فى مكان آخر.
الراحلة الكبيرة فاتن حمامة قوتها فى أنها شبه الناس، أو بالأحرى شبه أغلب الناس، فهى الفنانة الأكثر موهبة فى تاريخ مصر والعالم العربى، والأكثر احتراماً ومحافظة وقبولاً بين عموم المصريين والعرب.
تاريخ الراحلة حافل واستثنائى فى مسار الفن المصرى، فقدمت حوالى 103 أفلام، آخرها «أرض الأحلام»، كما قدمت دوراً مميزاً حُفر فى ذاكرة التاريخ بمسلسل «ضمير أبلة حكمت»، الذى أنتج عام 1991، ومسلسل «وجه القمر»، الذى أنتج عام 2000، إضافة إلى مسلسل إذاعى وحيد.
قوة فاتن حمامة فى موهبتها الكبيرة وفى قيمها الأكثر احتراماً، وهى التى وصف جمالها الراحل الكبير أحمد بهاء الدين ذات مرة فى مقال شهير: الجمال أنواع.. هناك الجميلة التى يراها الرجل فيشعر أنه ذاهب معها إلى مغامرة عاصفة، وهناك الجميلة التى يقتحم جمالها الرجل كأنه يدخل معه فى مبارزة.. وهناك الجميلة التى تحس إذا نظرت إليها أنها تقودك إلى مرفأ هادئ، أو إلى واحة خضراء، هذا النوع الأخير من الجمال هو الذى يعمر فى القلب أكثر من سواه، وهو النوع الذى تتميز به فاتن حمامة.. وكان من مؤهلاتها الحساسية العجيبة، كذلك هى، شفافة ترى فيها صعود المشاعر وهبوطها ودواماتها.. وهذه الحساسية هى جوهر الموهبة التمثيلية.
صورة فاتن حمامة هى البنت المصرية الطيبة، التى يظلمها الناس وينصفها القدر، فهى لا تعاند الناس أو المجتمع، ولا تقتحم معركة، إنما كل فضيلتها أن تصبر على الظلم وتنطوى على نفسها حتى ينصفها القدر بأن يحقق لها حلمها أو يبين براءتها.. وأصبحت كل بنت فى مصر.. فاتن حمامة! فكل بنت متوسطة فى مصر، تحيا حياة راكدة، ترى فاتن حمامة على الشاشة وكأنها ترى فيها نفسها، أو ترى فيها أحلامها لإحساس بالظلم، والأمل المشوب بالحزن، وانتظار السعادة التى يسوقها القدر.
محافظة فاتن حمامة وتقليديتها ورقيها الشديد على الشاشة وفى الحياة أروع ما فيها، فهى ليست النموذج المبتذل الذى روَّجه البعض على أنه فن، وحين أطلت على الجمهور فى حوارها الرائع مع مجدى الجلاد الذى أذيع أمس الأول عشية وفاتها حلمت فيه بمجتمع بلا كذب يحرص فيه الناس على النظافة والرقى الإنسانى وعبرت عن حسرتها على التدهور الذى أصاب سلوكيات المصريين.
كل من شاهد فاتن حمامة فى حوار «غير تمثيلى» يشعر أنها هى نفسها التى يشاهدها على شاشة السينما، ورغم أن الطبيعى أن الفنان يمثل وشخصيته فى الحقيقة ليست هى التى تظهر على الشاشة، ولكن فاتن من صدقها وحساسيتها لم يشعر الناس بفرق بين الاثنتين.
فاتن حمامة هى تقريباً آخر من بقى معنا من بقايا الزمن الجميل، وهى حلم مصرى كبير وموهبة عملاقة واستثنائية فى تاريخنا غابت عنا لتذكرنا أننا نحتاج إلى جهود هائلة حتى نعيد اكتشاف مواهب قريبة من موهبتها. رحم الله فاتن حمامة حلماً رائعاً وقيمة كبيرة وموهبة فريدة.