عمرو الشوبكي
تجارب التيارات اليسارية فى العالم نوعان: الأول احتجاجى غير قادر على الحكم أو التأثير فى الجماهير، (رغم أنه ليست لديه شغلانة إلا الحديث باسم الجماهير)، والثانى يسار يعبر عن قوى اجتماعية حقيقية، قادر على الحكم والتأثير فى الناس وفى معادلات السلطة والمجتمع.
وكثير من تجارب اليسار فى أوروبا وأمريكا الجنوبية عكست هذه المعضلة، فهناك من قوى اليسار من أحدث نقلات اجتماعية كبرى فى بلاده غيرت من وضعها الاقتصادى والسياسى، وهناك من بقى يُنَظِّر فى المقاهى وعلى مواقع التواصل الاجتماعى يجْتَرّ فشله ويهيل التراب على نجاح الآخرين.
حزب العمال الاشتراكى الذى قاده الرئيس البرازيلى السابق لولا دى سيلفا نجح فى إحداث نقلة تنموية واجتماعية وسياسية كبرى، وتعرض طوال فترة حكمه لانتقادات اليسار الثورى المراهق، فاتهمه بأنه باع الاشتراكية لصالح الاندماج فى نظام السوق العالمية الذى حددت قواعده «الإمبريالية الأمريكية»، ونسى أو تناسى أن «لولا دى سيلفا» غيَّر واقع البرازيل الاجتماعى وحوَّل الاشتراكية من مجال خصب للشعارات والأصوات الاحتجاجية إلى تجربة نجاح فى واقع اجتماعى صعب.
وقد شهد العالم تجربة اشتراكية أخرى أكثر يسارية من الناحية النظرية من تجربة حزب العمال البرازيلى، وهى تجربة رئيس الوزراء اليونانى اليسارى أليكسيس تسيبراس، الذى أصبح أصغر رئيس وزراء فى تاريخ البلاد الحديث وهو فى الأربعين من عمره، حيث وُلد بعد أيام من سقوط الحكم العسكرى فى اليونان.
وبدأ نشاط تسيبراس السياسى عندما كان طالباً فى المرحلة الثانوية، حيث قاد زملاءه فى موجة احتجاج ضد سياسات اليمين التعليمية، وظل معجَبا بالمناضل تشى جيفارا، إلى درجة أنه أطلق على ابنه اسم «أرنستو».
وقد أيد تسيبراس بشكل قاطع القضية الفلسطينية، ورفض الممارسات الاستيطانية الإسرائيلية، وعارض التعاون العسكرى بين بلاده وإسرائيل، وقاد مظاهرة فى أثينا ضد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة.
وقد دخل تسيبراس الحزب الشيوعى اليونانى وعمره لم يتجاوز 17 سنة، ومنذ ذلك اليوم لم يغادر معسكر اليسار، وخاض حزبه اليسارى انتخابات عام 2009 التشريعية، وحصل على 4.6 بالمائة من الأصوات، أى 13 مقعدا فقط فى البرلمان اليونانى.
وفى انتخابات 2012 التشريعية، حل ثانيا خلف «الديمقراطية الجديدة» (يمين)، ثم نجح فى أن يحصل حزبه اليسارى «سيريزا» على الأكثرية فى الانتخابات الأخيرة، وحصل على 149 مقعدا من أصل 300 ليشكل الحكومة وينجح فى تحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوروبى، بعد أن نجح فى تحريك الجماهير فى الاستفتاء الذى جرى الأسبوع الماضى وأسفرت نتيجته عن «لا» للشروط الأوروبية.
وقد اعتبر بعض قوى اليسار الثورى فى داخل اليونان وخارجها، بل جناح متشدد داخل حزبه، أن تسيبراس خان الاشتراكية لصالح شروط البنك المركزى الأوروبى ونظام السوق الرأسمالية، فى حين أن الرجل نجح فى أن يشرك غالبية الشعب اليونانى فى معركة حقيقية (وليس على فيسبوك)، من أجل تعديل سياسات الاتحاد الأوروبى تجاه بلاده.
ما فعله رئيس الوزراء اليونانى هو ربما أهم مناورة «يسارية» ناجحة منذ عقود شهدها العالم، فى بلد مُنْهَك بالديون وعلى شفا الإفلاس، وهى تقدم رسالة نظرية فى غاية الأهمية تقول إن نظام السوق الرأسمالية وُجد لكى يتطور وينتقد ويعدل لا ليهدم كما يطالب بعض رفاق تسيبراس، فى حين أن تجربته تقول إنه حتى من هو فى أقصى اليسار مثله حين وصل إلى السلطة تحول إلى إصلاحى حقيقى يتفاعل بشكل نقدى مع المنظومة الرأسمالية ليعدلها لا ليهدمها كما حلم البعض.