بقلم : نهاد أبو القمصان
للإسكندرية مكانة خاصة جداً عند كل المصريين، فما أن تذكر كلمة الإسكندرية إلا ويتبادر للذهن مشاعر ومعانى الراحة، الروقان، البحر، مذاق الفريسكا والجيلاتى والسمك.. كلمة إسكندرية مرادفة للسعادة.
بالنسبة لى ما أن أدخل الإسكندرية وتهل رائحة البحر حتى تهل معها رائحة أمى وأبى وطفولتى، فإجازة الصيف هى الوقت الوحيد الذى كنا نستمتع فيه بالعائلة كاملة، وكأن الإسكندرية كانت تعطينا جرعة عائلية مكثفة من الحب والمتعة والتقارب، نعيش عليها السنة كلها لنعود الصيف الذى يليه لنجدد الجرعة، جرعة لا يعرفها أبناؤنا فى الساحل الشمالى، فلا يوجد مكان قادر على فرض شخصيته وقيمه وحبه مثل الإسكندرية.
ولأنى أعلم ذلك حاولت منذ عدة سنوات أن أعيد التجربة مع أبنائى فلم نستطيع أن نكمل ثلاثة أيام، لم يرَ الجيل الجديد ما كنا نراه، لا مكاناً جميلاً يستطيعون التمتع به، لا خدمة جيدة على أى شاطئ، زحام ينتهك حقك، فى الخصوصية، فى الحياة، فى التنفس، فى كل شىء.
منذ فترة وأنا أتابع معركة دائرة حول إنشاءات على بحر الإسكندرية وأتضامن تماماً مع كل محبى الإسكندرية فى ضرورة الحفاظ عليها، ولكن هل اتفقنا على الحفاظ على أى إسكندرية؟ إسكندرية السبعينات والثمانينات التى كنا نسير فى الشارع بأمان وحرية ونرتدى المايوه من المنزل نسير به إلى البحر؟ أم التسعينات التى بدأت الطبقة الوسطى تهجرها حتى الإسكندرانية أنفسهم وتنزح إلى الساحل الشمالى تاركيها للفوضى والعشوائية؟ أم إسكندرية الألفينات التى لم يعد فيها مكان على البحر تستطيع أن تمضى يوماً بحرية أو حتى تشرب كوب شاى؟
منذ عدة شهور كنت فى زيارة عمل ومعى عدد من الأصدقاء من دول عربية وأجنبية ومثل كل الناس اختنقنا من الزحام والحواجز الأسمنتية فى كل مكان ولم نجد مكاناً نذهب إليه، وظللت أحكى لهم عن إسكندرية طفولتى وكأنى أحكى عن العنقاء أو الخل الوفى كعلامات للمستحيل، ومنذ عدة أيام ذهبت فى زيارة عمل أخرى مع أصدقاء وبدأت بعض الملامح تتكشف وراء الحواجز الأسمنتية لأجد أماكن بديعة تم تخطيطها، جلست فى قلب البحر أشرب قهوة فى مكان لائق تقدم فيه خدمة تحترم آدمية البشر.
بعض الأصدقاء عبروا بفرحة مقارنين بشواطئ بيروت لصالح الإسكندرية، أخذت سيارتى وتجولنا على البحر من أوله إلى آخره، وعانينا من الزحام لكن استبشرنا خيراً، حيث يوجد أماكن متعددة جديدة أو تم تجديدها، بعض الشواطئ القديمة أصبحت أفضل وكأن عدوى التجديد أو الخوف من المنافسة أجبرت الجميع على تقييم خدماته وتحسينها، شعرت أن الإسكندرية بدأت تسترد عافيتها وتتحول إلى منطقة جذب مرة أخرى حتى لأبناء الإسكندرية أنفسهم، وتكون محطة جذب سياحى للمصريين وغير المصريين أيضاً.
أصبح فيها أماكن لا تقل جمالاً أو خدمة عن الساحل الشمالى أو التجمع الخامس الذى يتطلع إليه الكثيرون، سعدت لأن من حق الإسكندرانية التمتع بمدينتهم وأن يوجد فيها تنوع يناسب كل الطبقات، البسيطة والمتوسطة والمرتفعة، هذا التوازن مهم جداً اقتصادياً واجتماعياً، ويظل من المهم جداً أن ترفع كل الحواجز الأسمنتية والأسوار التى بنيت على الكورنيش لأسباب إنشائية ويتحرر الكورنيش ليكون ممشى بديعاً للجميع كما كان فى الماضى غير القريب.
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع