ظلمت مصر الأردن في الماضي. آن الأوان لأن يكون هناك رئيس مصري يدرك تماما أن لدى الأردن ما يقدمه لمصر، ولدى مصر ما تقدمه للأردن.
تشير زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي الأخيرة لعمّان ومحادثاته مع الملك عبدالله الثاني إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين. فالخطوة الأولى في سبيل عودة مصر إلى مكانتها على الصعيد الإقليمي تختزل بعبارة من أربع كلمات هي: التواضع والتخلص من العقد.
لعلّ بين العقد التي يُفترض في مصر التخلّص منها، عقـدة الأردن التي لازمت جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك. نعم، الأردن بلد صغير مقارنة مع مصر. إمكاناته محدودة جدا. إنّه من أفقر بلدان العالم في المياه. لا نفط لديه ولا غاز ولا ثروات طبيعية… ولا شاطئ طويلا ولا قناة السويس، كما لا يستطيع تهديد أحد. كلّ هذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضا أنّ عشرات آلاف العمال المصريين موجودون في هذا البلد الفقير الذي اسمه المملكة الأردنية الهاشمية.
من الواضح أنّ عبدالفتاح السيسي تجاوز عقدة الأردن. هذا ما أوحت به الزيارة القصيرة التي كان ملفتا فيها الحفاوة التي استقبل بها الرئيس المصري من جهة، والعفوية في تصرّفاته من جهة أخرى. الموضوع ليس موضوع المواجهة مع الإخوان المسلمين الذين وضعهما مصر والأردن في حجمهم الحقيقي. الموضوع أبعد من ذلك بكثير. إنّه موضوع تفاهم سياسي وأمني وتكامل اقتصادي ذي طابع إستراتيجي بين بلدين كان متوقّعا أن يستفيد كلّ منهما من الآخر في مختلف المجالات.
ظلمت مصر الأردن في الماضي. آن الأوان لأن يكون هناك رئيس مصري يدرك تماما أن لدى الأردن ما يقدّمه لمصر، ولدى مصر ما تقدّمه للأردن. كان الهمّ المصري بين المواضيع التي حملها عبدالله الثاني خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، ومحادثاته مع الرئيس باراك أوباما.
لم يوفّر جمال عبدالناصر جهدا إلاّ وبذله من أجل قلب الملك حسين، رحمه الله. كان يوّجه إليه كلاما قاسيا يتناول شخصه. كان كلاما تخوينيا له ولعائلته. رفض العاهل الأردني، في كلّ وقت، النزول إلى هذا المستوى محافظا على السلوك الراقي للهاشميين.
خاض عبدالناصر حرب العام 1967 التي كان الأردن يعرف سلفا أنّها حرب خاسرة. اكتشف، متأخّرا جدّا، حقيقة الملك حسين الذي وجد نفسه مجبرا، بسبب المزايدات المصرية والسورية، على خوض الحرب التي جعلت العرب يخسرون الضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلا عن سيناء والجولان. اعتذر عبدالناصر من الأردن بأن وعد بعدم الإقدام على أي خطوة في اتجاه استرجاع سيناء من دون أن تكون الأولوية للضفّة الغربية والقدس تحديدا. أكثر من ذلك، فوّض عبدالناصر الملك حسين أن يفعل ما يشاء لاسترجاع الضفّة.
مات عبدالناصر وبقي الملك حسين. جاء أنور السادات الذي قدّم الكثير لمصر، لكنّه لم يلتزم بالوعد الذي قطعه سلفه للعاهل الأردني الراحل في مرحلة ما بعد حرب العام 1967. لم يمنع ذلك الأردن من السعي إلى تفهّم الموقف المصري إلى أبعد حدود، حتّى بعد ذهاب السادات إلى القدس في العام 1977، وذلك على الرغم من الضغوط والتهديدات التي تعرّض لها من البعثيين السوري والعراقي، اللذين تصالحا فجأة من أجل الوقوف بوجه مصر.
كان أنور السادات في كل وقت أسير عقدة الأردن الذي كان عليه السير في ركاب سياساته من دون أي سؤال أو جواب. رفض أن يأخذ في الاعتبار الظروف المحيطة بالأردن، وطبيعة النظامين السوري والعراقي اللذين لم يؤمنا يوما سوى بإلغاء الآخر. استعاد السادات الأرض المصرية، وهذا إنجاز ضخم يحسب له، ولكن من دون أن يتوقف لحظة عند هموم الأردن ومعاناته، والظروف التي جعلته يفقد في ظلّها الضفة الغربية والقدس الشرقية.
في عهد حسني مبارك، نسي رئيس مصر ما قام به الأردن من أجل عودة مصر إلى العرب، وعودة العرب إلى مصر. نسي أن الملك حسين بادر في العام 1985 إلى إعادة العلاقات بين عمّان والقاهرة على الرغم من الموقف العربي. كسّر القطيعة العربية مع مصر. لم يتخلّ عن مصر وظلّ مؤمنا بدورها والحاجة العربية إليها، خصوصا بعدما بدأت إيران تسعى إلى قلب المعادلات التي قامت عليها المنطقة.
بقي مبارك ينظر إلى الأردن نظرة سطحية، بدل الاستفادة من تجربته، حتى أن وزير الخارجية المصري عمرو موسى، الذي أصبح لاحقا الأمين العام لجامعة الدول العربية راح يأخذ على الأردن “الهرولة” في اتجاه السلام مع إسرائيل، علما أن مصر كانت أول من وقّع معاهدة سلام معها في العام 1979. لم يوقّع الأردن معاهدة السلام إلّا في العام 1994 وذلك بعد ثلاثة عشر شهرا من ذهاب الجانب الفلسطيني إلى البيت الأبيض لتوقيع اتفاق أوسلو.
كان على الملك حسين الردّ، في حينه، على عمرو موسى الذي كان لا يزال وزيرا للخارجية. حصل ذلك في أحد المؤتمرات التي انعقدت في عمّان، عندما قال الملك علنا للوزير المصري: “إنّنا نهرول من أجل أن نتمكن من اللحاق بكم”.
في كلّ الأحوال، ظلّ حسني مبارك ينظر إلى الأردن بطريقته الخاصة. لم يرد يوما مثله مثـل عبدالناصر والسادات فهم الأردن. لم يخـف يوما تضـايقه من أي دور أردني بـين الفلسطينيـين وإسـرائيـل. لم يسـأل نفسه يوما لماذا هناك دور أردني على الصعيد الإقليمي، والفلسطيني تحديدا، ولماذا استطاع الأردن المحافظة على كيانه على الرغم من كلّ المصائب التي حلّت بالمنطقة؟
ما يدعو إلى التفاؤل هذه الأيام بوادر تغيير في النظرة المصرية إلى الأردن. مصر بلد عظيم وكبير، وما قام به الشعب المصري الذي نزل إلى الشارع متحدّيا الإخوان المسلمين كان ثورة حقيقية. لم يتردد الأردن في دعم تلك الثورة، خصوصا أنّه عانى بدوره من وجود الإخوان المسلمين في موقع القيادة بمصر. لكن هناك تجربة أردنية أيضا، خصوصا في طريقة التعاطي مع الإخـوان، يمكن أن تستفيد منها مصر. هذا ما يبـدو أن عبدالفتاح السيسي بدأ يعيه، عبر اعتماد التواضع أولا. بدأ يعي أن لا فائدة من البقاء في أسر عقدة الأردن، وأنّ لا عيب في التعاطي بندّية مع هذا البلد الذي لديه حقّا ما يقدّمه لمصر على الرغم من قدراته المحدودة، ولكن بفضل تجربته الطويلة التي عرف عبدالله الثاني كيف يحافظ على سرّ نجاحها…