قبل خمسين عاما، في اليوم الأوّل من العام 1965، نفّذت “فتح” (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) أولى عملياتها ضدّ إسرائيل. كان ذلك مؤشرا إلى تطوّر كبير على الصعيد الإقليمي. ثمّة من أخذه على محمل الجدّ وثمة من استخفّ به.
أخذ هذا التطور مداه بعد هزيمة العام 1967 وشعور العرب عموما بأنّ كلام الأنظمة عن تحرير فلسطين أقرب إلى الأوهام من أيّ شيء آخر. كان على الفلسطينيين أخذ أمورهم بأيديهم بعد خسارة الضفّة والجولان وسيناء. هذا ما حاولت أن تجسّده “فتح”. وهذا ما نجحت به جزئيا عبر مسيرة طويلة.
كانت “فتح” موحّدة إلى حد ما في ظلّ شخصية ياسر عرفات الذي سعى دائما إلى امتلاك هامش من المناورة. نجح أحيانا وفشل في أحيان كثيرة، خصوصا في ظلّ ممارسات البعثين السوري والعراقي والمزايدات التي ارتدت طابعا دمويا بينهما.
بعد هزيمة 1967، اكتشف المواطن العربي أنّه كان ضحية عملية غشّ لا أكثر. هل من غشّ أكبر من مجسمات الصواريخ (الظافر والقاهر) التي عرضتها مصر جمال عبد الناصر قبل الحرب؟
بعد الهزيمة، باتت كلّ الآمال معقودة على “فتح” التي لم يعد أي نظام يجرؤ على طرح تساؤلات في شأن طبيعتها وتكوينها من جهة والشعارات التي رفعتها من جهة أخرى. على رأس هذه الشعارات كان “الكفاح المسلّح”. صارت “فتح” تعني أوّل ما تعني أن الفلسطيني بات مسؤولا عن تحرير أرضه بعدما خذله العرب. لم يطرح أيّ من العرب السؤال البديهي الآتي: كيف يمكن تحرير فلسطين من الأردن… أو جنوب لبنان؟ هل هذا عائد إلى ضعف الأردن، الذي ما لبث أن قوي، وضعف لبنان الذي لا يزال يعاني من السلاح غير الشرعي إلى اليوم؟ أم أن كلّ ما في الأمر هو الهرب من النتائج المترتبة على الهزيمة وإلقاء تبعاتها على لبنان، وقبله على الأردن؟
ما لا يمكن تجاهله أن السلاح غير الشرعي الفلسطيني أسّس لوجود السلاح غير الشرعي الإيراني، أي سلاح ميليشيا مذهبية، ذات عناصر لبنانية، تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني اسمها “حزب الله”.
في هزيمة العرب كانت قوّة “فتح”، لكنّها كانت نقطة ضعفها أيضا بعدما تبيّن أنّ استمرارها مرتبط إلى حدّ كبير بالمساعدات المالية العربية، إضافة إلى رميها في الأتون اللبناني إثر ارتكاب خطيئة ليس أسوأ منها. في الواقع، لم يكن الأمر مجرّد خطيئة، بل كان جريمة تمثّلت في إجبار العرب لبنان على توقيع اتفاق القاهرة الذي لعب دوره في التمهيد للحرب بين اللبنانيين وحروب الآخرين على أرض لبنان وصولا إلى الاجتياح الإسرائيلي ثمّ الوصاية السورية الكاملة التي تلاها سعي إيران إلى أن تكون دولة متوسطية… عن طريق لبنان.
هل كان ياسر عرفات كلّ “فتح” في كلّ وقت؟ هل الكلام عن نصف قرن من الوجود العلني لـ”فتح” يمكن أن يقتصر على “أبو عمّار”؟ الجواب نعم. كان ياسر عرفات “فتح”. كانت “فتح” على قياس ياسر عرفات رجل كلّ التناقضات والتسويات في الوقت ذاته. رجل كلّ القرارات السياسية الكبيرة ورجل كلّ الأخطاء الكبيرة أيضا.
كان “أبو عمّار” زعيما استثنائيا بكلّ المقاييس، خصوصا إذا تمعنّا بالقياديين الآخرين الذين لعبوا دورا في إنشاء “فتح”. وحده ياسر عرفات امتلك مجموعة من الصفات التي جعلت التنظيم يتحوّل إلى شيء آخر في غيابه. من بين هذه الصفات استخدام المال لتحقيق أغراض سياسية. كان المال نقطة ضعفه وقوته في الوقت ذاته… لكنّه كان السبب وراء بقائه الشخصية الأقوى المهيمنة في “فتح”.
لم يكن هناك في الواقع شخص ثان أو ثالث أو رابع. كانت هناك مراكز قوى في “فتح”. كان علي حسن سلامة مركز قوّة لفترة طويلة قبل أن تغتاله إسرائيل أواخر السبعينات بسبب فتحه أول قناة اتصال مع واشنطن. لم يكن لدى “أبو حسن” من سند سوى ياسر عرفات. لكنّ ذلك كان كافيا كي يكون قياديا بارزا، بالرغم من صغر سنّه وعدم انتمائه إلى نادي القادة التاريخيين للحركة. كان من بين الأكثر تأثيرا في “فتح”، لا لشيء سوى لأنّه كان يستمدّ نفوذه من ياسر عرفات.
بعض مراكز القوى في “فتح” كان يستمدّ وجوده من أنّه معترض على ياسر عرفات وعلى سياساته. كان هذا البعض تابعا لهذا النظام العربي أو ذاك. ضعف ياسر عرفات كان في أنّه لم يقمع الذين اعترضوا عليه من الداخل، حتّى لدى تماديهم في ذلك، لكنّه كان يعتبر ذلك مصدر قوّة. ضعفه الأكبر كان في الحاجة إلى أرض، أي أرض يمارس سلطته عليها، فضلا عن السماح للأنظمة العربية باختراق منظمة التحرير الفلسطينية التي تحوّلت إلى مجموعة من الدكاكين، على غرار “فتح” نفسها. ضعفه الأكبر أيضا في أنّه لم يعرف أين يتوقف وأين يوقف المنظمات الفلسطينية الأخرى عند حدّها، لا في الأردن ولا في لبنان. لم يفضح منظمة تابعة للنظام السوري اجتاحت بلدة مسيحية لبنانية عريقة، هي الدامور، ولا حتّى منظمة فلسطينية طفيلية سرقت، باسم الفكر الماركسي ـ اللينيني، مصرفا في بيروت. لا تزال تلك المنظمة “اليسارية” تعتاش من غلّة تلك السرقة إلى الآن…
منذ وفاة “الختيار” في الحادي عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر 2004، صارت “فتح” في حال من الضياع في غياب من يستطيع الجمع بين المكوّنات المختلفة للحركة وإدارتها بما يخدم مصالحه أو يتضارب معها. كان “أبو عمّار” ضرورة فلسطينية في مرحلة خاض فيها حروبا على غير جبهة. كان يعرف كيف يستفيد من أعدائه وتوظيف هذا العداء لمصلحته وما يخدم قضيّته.
لا يمكن رواية قصّة نصف قرن من عمر “فتح” من دون رواية قصّة ياسر عرفات الذي امتلك في كلّ وقت هدفا محدّدا. كان هناك رجال آخرون في الحركة. لعب كلّ منهم دوره. كان هناك صلاح خلف (أبوإيّاد) الذي اغتاله عميل إسرائيلي اسمه “أبو نضال” وخليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتالته إسرائيل مباشرة.
كان هناك أيضا خالد الحسن وكان هناك “أبو مازن” والعميد سعد صايل (أبو الوليد)، القائد العسكري الفذّ، الذي اغتاله النظام السوري في البقاع اللبناني. كان هناك كثيرون من بينهم فاروق قدّومي مثلا الذي ليس معروفا إلى الآن لماذا كان في موقع المسؤول، أقلّه ظاهرا، عن الدبلوماسية الفلسطينية في مراحل أقلّ ما يمكن أن توصف به بأنّها كانت في غاية الدقّة وتتطلّب الحاجة إلى من لديه الحدّ الأدنى من الثقافة السياسية بمعناها البدائي…
كان هناك كبار رحلوا باكرا مثل أبويوسف النجّار وكمال عدوان. وحده ياسر عرفات كان من طينة مختلفة جمعت بين كلّ هؤلاء الرجال ولكن من دون أن يتمكن من بناء مؤسسات، ولو متواضعة، قادرة على الصمود في وجه انقطاع المال العربي الذي سعت “فتح” منذ نشأت إلى أن لا تكون تحت رحمته.
كيف يمكن لحركة أرادت منذ البداية أن تحرّر الفلسطينيين والقرار الفلسطيني من الأنظمة العربية أن تنتهي أسيرة المال العربي؟ كانت تلك إحدى الخطايا الكبرى لياسر عرفات الذي قبل في مرحلة معيّنة أمرين كان يفترض به عدم القبول بهما بأيّ شكل.
قبل “أبو عمّار” أوّلا أن يكون قراره السياسي رهينة النظام السوري طوال سنوات من أجل أن يتمكّن من البقاء في أرض لبنان. قبل بالظلم الذي لحق باللبنانيين من أجل أن يظلّ لاعبا على الصعيد الإقليمي ولكن بما يخدم حافظ الأسد الذي كان يتحكّم بشريان الحياة الذي يعتمد عليه المسلّحون الفلسطينيون المنتمون إلى “فتح” وغير “فتح”.
كان لدى الأسد الأب همّ لبناني واحد هو استخدام السلاح الفلسطيني لتدمير لبنان على من فيه وتبرير الدخول العسكري السوري إلى البلد بحجة حماية المسيحيين في البداية. سلّح الفلسطينيين وغير الفلسطينيين كي يهاجموا المسيحيين، ثمّ تصنّع أن لا أحد غيره يستطيع وقف المجازر في لبنان!
في مرحلة لاحقة، بعد الخروج من لبنان في العام 1982، صار عرفات أسير النظام العائلي ـ البعثي في العراق الذي أراد استخدامه ورقة في سياساته التي تنمّ عن جهل بموازين القوى في المنطقة والعالم. وقد دفعت “فتح” غاليا ثمن هذا الارتباط، خصوصا بعد المغامرة المجنونة لصدّام حسين الذي احتلّ الكويت صيف العام 1990.
ليس ممكنا في أيّ وقت فصل “فتح” عن ياسر عرفات. لذلك، يمكن القول بكلّ راحة ضمير إن “فتح” باتت شبه منتهية بعد رحيل “أبو عمّار”. صارت هناك “فتح” أخرى ليس مسموحا بأي أخذ وردّ داخلها. ليس مسموحا فيها بأن يكون هناك من لديه رأي خاص به. تغيّرت “فتح” إلى درجة بات يصحّ التساؤل: ما وظيفة الحركة في غياب ياسر عرفات؟ هل من وظيفة لها الآن؟
بعد نصف قرن، يمكن القول إنّ “فتح” كانت القطار الذي أوصل الفلسطينيين إلى البيت الأبيض وإلى اتفاق أوسلو وإلى تكوين الشخصية الفلسطينية المستقلّة والمحافظة على الروح الوطنية لدى الشعب الفلسطيني. أبقت “فتح” فلسطين حيّة ترزق على الرغم من كلّ ما بذلته إسرائيل لطمس وجود الشعب الفلسطيني وهوّيته.
كان نصف قرن كافيا لتأكيد أنّ “فتح” كانت ضرورة فلسطينية وأنّ الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستكين يوما. أعادت “فتح” فلسطين إلى الفلسطينيين. كانت المسيرة، التي توّجت بإيجاد ياسر عرفات مكانا له يدفن فيه في فلسطين وعند أبواب القدس، مسيرة طويلة. كانت الحروب مع إسرائيل دائمة. سألت دماء كثيرة كما كانت هناك معارك دبلوماسية. سقط آلاف الشهداء من أجل فلسطين. ولكن، هل كان هناك ما يبرّر كلّ هذا الظلم الذي تعرّض له الأردن ثمّ لبنان ثمّ الكويت في مراحل معيّنة من عمر “فتح”؟
ظَلمت “فتح”، لكنّها ظُلمت أيضا. في أحيان كثيرة ظلَمها بعض الأنظمة العربية التي أرادت “فتح” أن تكون بعيدة كلّ البعد عنها قبل أن تكتشف أنّ ليس في استطاعتها إلّا أن تختار بين هذا النظام أو ذاك. لم يكن هناك توزيع أدوار ذات طابع مدروس في “فتح”. كانت هناك بعض الدكاكين داخل المنظمة. كان ياسر عرفات على علم تام بوجودها. الشيء الوحيد الذي لم يقبله هو تدخّل النظام السوري الذي أراد دائما وضع “فتح” تحت وصايته. ولذلك توجّب على من أراد السير في ركاب النظام السوري الانشقاق عن “فتح”.
هل لا تزال ضرورة لـ”فتح”؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في ظلّ وجود انقسام فلسطيني في العمق بين الضفّة الغربية وغزّة، بين “فتح” و”حماس”. لم تعد “فتح” بكلّ بساطة سوى أداة لسلطة ليست بسلطة. إنّها السلطة التي تدفع ثمن الفرص التي ربّما أضاعها ياسر عرفات الذي قد ينصفه التاريخ كما قد لا ينصفه… إلاّ في ما يخصّ الاعتراف بأنّه لولاه لما كان وجود للهوية الفلسطينية في السنة 2015.