يتحمّل "حزب الله" المسؤولية الكاملة عمّا حل بلبنان في ضوء القرار الذي اتخذه، بناء على طلب إيراني، بفتح جبهة الجنوب بحجة "إسناد غزّة". يعرف نعيم قاسم، الأمين العام الجديد لـ"حزب الله"، في قرارة نفسه حجم الهزيمة التي مني بها الحزب في ضوء الحرب التي شنتها إسرائيل عليه وعلى البلد الذي يعاني من احتلال إسرائيلي جديد يعيد بالذاكرة إلى سبعينات القرن الماضي وثمانيناته وتسعيناته عندما أقامت الدولة العبريّة جيبا في الجنوب.
رفضت إسرائيل وقتذاك تنفيذ القرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لم تقبل بتنفيذ القرار سوى في أيار – مايو من العام 2000. أدى ذلك إلى اعتراف مجلس الأمن بتنفيذها القرار 425، فيما اخترع "حزب الله" قضية مزارع شبعا التي احتلت في حرب 1967 والتي ينطبق عليها القرار 242. في الواقع، إخترع الحزب قضيّة مزارع شبعا التي كانت تحت السيطرة السوريّة، لدى احتلاها، لتبرير إحتفاظه بسلاحه وكي يستخدم هذا السلاح في الداخل اللبناني.
عادت حرب "إسناد غزّة" بالويلات على لبنان وعلى أبناء الطائفة الشيعية تحديدا. لا يستطيع نعيم قاسم مواجهة الحقيقة ولا يستطيع في الوقت ذاته سوى طمأنة البيئة الحاضنة عبر بيع الأوهام. إنها أوهام من نوع أنّ "حزب الله" حقّق في الحرب الأخيرة انتصارا أكبر من انتصار العام 2006 وأنّه أجبر إسرائيل على قبول وقف النار. متى كان بيع الأوهام يصلح لإنتهاج سياسة ذات صدقيّة معيّنة، سياسة تبني ولا تهدم؟
لا يصدّق خليفة حسن نصرالله نفسه أي كلمة وردت في خطابه الأخير، خصوصا أن لغة الأرقام لا تخطئ. يكفي عدد القرى التي دمرها الوحش الإسرائيلي وبات يسيطر عليها للتأكد من ذلك... هذا إذا وضعنا جانبا عدد اللبنانيين الشيعة الذين باتوا مشردين في مختلف انحاء لبنان. بعض هؤلاء ذهب إلى سوريا أيضا وبعض آخر ذهب إلى العراق. لا يستطيع نعيم قاسم تجاهل عدد الذين قتلتهم إسرائيل من قياديين في الحزب بدءا بحسن نصرالله وابن خالته هاشم صفي الدين ذي النفوذ الواسع والذي كان يعتبر بين أقرب الناس إليه.
يشبه وضع "حزب الله"، في ضوء قبوله بإشراف "الشيطان الأكبر" على آلية تنفيذ القرار الرقم 1701 واضطراره إلى الفصل بين حربي لبنان وغزّة، النظام البعثي السوري في مرحلة ما بعد وقف النار في حرب حزيران – يونيو 1967.
وقتذاك، جمع وزير الخارجية السوري إبراهيم ماخوس موظفي الوزارة ليقول لهم أن سوريا انتصرت في الحرب مع إسرائيل على الرغم من سقوط الجولان الذي احتلته الدولة العبريّة، وما زالت تحتلّه. فسّر ذلك بأن هدف الحرب كان اسقاط النظام وقد فشلت إسرائيل في ذلك.
بالنسبة إلى ماخوس، الذي لجأ إلى الجزائر بعد الإنقلاب الذي نفذه حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970، لا وجود لهزيمة عربيّة أو سوريّة نتيجة حرب الأيام الستة. المهم، بالنسبة إلى الرجل الذي توفى في الجزائر، فيما لا يزال الجولان محتلا منذ 57 عاما، هناك مفهوم آخر للهزيمة والإنتصار ومعناهما. المهمّ بقاء النظام البعثي الذي زاد سوريا فقرا وبؤسا وعزلة دولية. مكن ذلك حافظ الأسد، الذي كان وزيرا للدفاع لدى احتلال الجولان من تنفيذ انقلابه بسهولة رافعا شعار "الحركة التصحيحيّة". لا مفرّ من الإعتراف بأن الأسد الأب نجح في فك العزلة العربيّة والدولية لسوريا... وصولا إلى غطاء عربي ودولي سمح له بوضع اليد على لبنان لسنوات طويلة!
كم يشبه اليوم، المتمثّل في احداث 2024، البارحة التي عمرها 57 عاما. توجد حاليا هزيمة ساحقة ماحقة لحقت بـ"حزب الله". أكثر من ذلك، كانت لهذه الهزيمة انعكاسات على الوضع السوري حيث يعاني النظام من عجزه، في ظلّ تراجع المشروع التوسّعي الإيراني، عن مواجهة قوات معارضة مدعومة من تركيا في شمال شرق البلد، في ادلب وحلب تحديدا. لا يستطيع النظام أيضا تلبية مطالب روسيّة تكررت منذ أشهر عدّة. تتعلّق هذه المطالب بتطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا بدءا بلقاء يعقد بين الرئيس رجب طيب اردوغان من جهة وبشّار الأسد من جهة أخرى.
يرفض "حزب الله" التعلّم من المصائب التي جرتها حرب "إسناد غزّة" عليه وعلى لبنان. إختار المكابرة. في السياسة، لا وجد لخيار سياسي اسمه المكابرة. لا يتجاهل الحزب المصلحة الوطنية اللبنانيّة فحسب، بل يصرّ أيضا، عبر أمينه العام، على رفض التعاطي مع إقامة إسرائيل منطقة عازلة في جنوب لبنان في طول "الخط الأزرق" وخطورة ذلك في المدى الطويل.
ما الذي يحول دون التعاطي مع الواقع؟ الجواب أن إيران تعيش في عالم خاص بها، عالم أقرب إلى الوهم من أي شيء آخر. "حزب الله" جزء من هذا العالم الإيراني الوهمي. لا يهمّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" ما يحلّ بجنوب لبنان وأهله ولا يهمّها عدد السنوات الذي سيبقى فيه الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان... مثلما لم يهمّها الاحتلال الإسرائيلي المستمر للجولان السوري!
ثمة خطوة أولى، يستطيع "حزب الله" الإقدام عليها، في حال كان يريد في نهاية المطاف تقديم خدمة إلى لبنان واللبنانيين. تتمثّل هذه الخطوة في الإعتراف بالهزيمة بدل العيش تحت مظلة الأوهام الإيرانية. يحتاج الإعتراف بالهزيمة إلى شجاعة حقيقيّة. ربّما يمتلك الحزب هذه الشجاعة، لكنّه لا يستطيع ممارستها بأي شكل. يعود ذلك إلى طبيعة العلاقة التي تربطه بـ"الجمهوريّة الإسلاميّة" والتي تجعل منه لواء في "الحرس الثوري" الإيراني لا أكثر. بكلام أوضح، لا يستطيع "حزب الله" الخروج من العباءة الإيرانية التي أخذته إلى سوريا وورطته في حرب يخوضها النظام الأقلّوي مع الشعب السوري. لا يستطيع الحزب الإقدام على خطوة ذات طابع إيجابي تبدأ بالإعتراف بأن للهزيمة إسما واحدا هو الهزيمة!