للمرّة الأولى منذ أربع سنوات، يلتقي بنيامين نتنياهو الملك عبدالله الثاني. جاء «بيبي» إلى عمّان لعقد اجتماع مع العاهل الأردني، علماً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يترك في الماضي مناسبة إلّا وسعى إلى إظهار الاستخفاف بالمملكة الأردنيّة الهاشميّة ودورها كما لو أنّه يريد الانتقام من اتفاق السلام الأردني - الإسرائيلي الذي ليس سوى نتاج لقدرة الملك حسين، رحمه الله، على امتلاك رؤية سياسية صائبة من جهة واستغلال الظروف الإقليميّة من أجل حماية المملكة الهاشمية من جهة أخرى.
كان اتفاق السلام الأردني - الفلسطيني الموقّع في أكتوبر من العام 1994 في وادي عربة بين الراحلين الدكتور عبدالسلام المجالي واسحق رابين ضمانة للأردن وحقوقه في الأرض والمياه، كما أكّد الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة المسيحيّة والإسلاميّة في القدس. لم يرسم اتفاق السلام الحدود النهائية للأردن فحسب، بل ساعد في رسم الحدود التي يفترض أن تكون حدود الدولة الفلسطينيّة المستقلّة أيضاً.
لم يكن اليمين الإسرائيلي راضياً، في أي يوم، عن اتفاق السلام مع الأردن.
كانت لهذا اليمين في كلّ وقت رغبة في أن يكون الأردن الوطن البديل للفلسطينيين. هذا ما استطاع الملك عبدالله الثاني وضع حدّ نهائي له عندما كرّس واقعاً يتمثل في أن الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين.
تكمن المشكلة أيضاً في أن «بيبي» وحكومته الجديدة لا يؤمنان بالمحافظة على المسجد الأقصى بوضعه الحالي ولا يؤمنان بأن المملكة الأردنيّة الهاشمية عنوان للسلام والاستقرار في المنطقة وأنّ أي إساءة للمملكة ودورها يصبّ في خدمة التطرف في المنطقة.
هل آن أوان إعادة رئيس الوزراء الإسرائيلي تأهيل نفسه، عبر الأردن كسياسي يحترم الاتفاقات التي وقّعتها إسرائيل في الماضي؟ ثمة ميل في أوساط عربيّة وإقليميّة ودوليّة هذه الأيام إلى الاستخفاف بالأردن وتصوير الوضع فيه خلافاً لما هو عليه. يحدث ذلك في وقت يعرف كلّ عاقل أن ليس في الإمكان الاستخفاف بالأردن وتماسكه الداخلي ودوره الإقليمي على الرغم من كلّ الصعوبات والتعقيدات ذات الأشكال المختلفة التي تواجه المملكة الهاشميّة.
في مقدّم الصعوبات والتعقيدات، تلك الناجمة عن الوضع الاقتصادي السيئ الذي ولدته عوامل عدّة بينها ارتفاع أسعار النفط وحرب أوكرانيا وانعكاساتها على بلد يحتاج دائماً إلى دعم خارجي ويعاني من شحّ في المياه ولا يمتلك موارد طبيعيّة تذكر.
جاءت زيارة «بيبي» لعمّان لتؤكد أنّ ليس في الإمكان تجاهل الأردن ومنع سفيره في تل أبيب من زيارة المسجد الأقصى. يُفترض في رئيس الوزراء الإسرائيلي استيعاب أن الأردن ضرورة إقليميّة.
مرت المملكة الهاشميّة في السنوات الممتدة منذ تأسيسها بتجارب عدّة كانت في غاية الخطورة، بينها احداث 1970. اثبتت في كلّ هذه التجارب أن مقومات وجودها متينة لا مجال لإنهاء دورها بالسهولة التي يتخيلها بعضهم.
هل أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أخيراً أنّ لا مجال لإنهاء الدور الأردني وأنّه لا يجوز أن يكون تحت رحمة المتطرفين المشاركين في الحكومة الإسرائيلية، من أمثال ايتمار بن غفير أو بتسلئيل سموتريتش.
هل اقتنع أخيراً أن بن غفير وسموتريتش لا يقلان خطورة عن رموز «محور الممانعة» الذي تقوده ايران في المنطقة... وهو المحور الذي يدّعي «بيبي» مواجهته، خصوصاً في الجنوب السوري؟ لا يمكن لأي سياسي تجاهل الدور الأردني في الجنوب السوري وجهود الأردن في مواجهة تهريب المخدرات والأسلحة...
في النهاية، يُفترض في «بيبي» الاقتناع بأنّ ليس في استطاعته تحدي المسلمين في العالم، عن طريق منع السفير الأردني من دخول المسجد الأقصى.
أكثر من ذلك، لا يستطيع تجاوز الأردن في حال كان يريد بالفعل توسيع شبكة العلاقات الإسرائيلية في العالم العربي.
يحتاج «بيبي» إلى التمتع ببعض التواضع والشجاعة تمهيداً للاقتناع بأنّ النهج الذي سار عليه والذي يقوم على فرض أمر واقع في فلسطين، أي تكريس الاحتلال، لا يؤدي سوى إلى مزيد من الكوارث.
تكفيه قراءة نص الخطاب الذي القاه عبدالله الثاني في السابع من مارس 2007 امام مجلسي الكونغرس الأميركي ليتأكّد من أنّ العاهل الأردني يمتلك رؤية لم تعد موجودة في إسرائيل منذ اغتيال اسحق رابين في العام 1995. أكّد العاهل الأردني في ذلك الخطاب أهمّية قيام دولة فلسطينية مستقلة وضمان حقوق الفلسطينيين.
كلما مرّ يوم، يقترب «بيبي» من ساعة الحقيقة. تعني ساعة الحقيقة أن المنطقة والعالم لا يستطيعان أن يكونا تحت رحمة حكومة من المتطرفين الإسرائيليين لا مهمة لها سوى إنقاذ المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو.
هناك ما هو أهمّ من المستقبل السياسي لرجل ملاحق قضائياً بتهم الفساد. لعلّ أكثر من يدرك ذلك اليهود الأميركيون الذين وضعوا مسافة بينهم وبين الحكومة السادسة لنتنياهو وطموحات الرجل.
ما على المحك في المنطقة يتجاوز شخص رئيس الحكومة الإسرائيلية. الأكيد أنّه ما كان ليذهب إلى عمان لولا حاجته إلى الأردن وإلى إعادة الاعتبار للسياسة كي تكون بديلاً من الغرائز الدينيّة والتعصب والإرهاب المعشعش في قلوب معظم الوزراء في الحكومة الإسرائيلية الجديدة. هؤلاء لا يقلّون خطورة عن «داعش» و«القاعدة» وعن «جبهة الممانعة».
لن يكون كافياً ذهاب نتنياهو إلى عمّان. قد يكون مفيداً مراقبة ما يدور في الداخل الإسرائيلي حيث يخوض رئيس الوزراء معركة حياة أو موت لمستقبله السياسي مع المحكمة العليا. ترمز هذه المحكمة، التي منعت انضمام آرييه درعي، زعيم حزب «شاس» المتطرف إلى الحكومة، إلى استقلال السلطة القضائية.
ترمز أيضاً إلى أن إسرائيل لم تسقط بعد إلى مصاف دول العالم الثالث حيث لا فصل بين السلطات الثلاث...
هل تكون زيارة «بيبي» لعمان نقطة تحوّل في مسيرة الرجل؟ الأكيد أنّها تعني الكثير، لكنّها لن تكون كافية لإعادة تأهيل نفسه في علاقاته مع الإدارة الأميركيّة وأوروبا والعالم العربي. كانت الزيارة بداية مصالحة مع المنطق لا أكثر.