بعد مضي نحو ثمانية اشهر على اجراء الانتخابات العراقيّة، وهي انجاز في حد ذاته حققته حكومة مصطفى الكاظمي، لا يزال الطريق مسدودا سياسيا على كلّ المستويات. يظهر الإنسداد السياسي العراقي بوضوح من خلال العجز عن تشكيل حكومة جديدة من جهة وانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفا لبرهم صالح من جهة أخرى.
لا يزال العراق رهينة ايرانيّة لا اكثر. لا دور له سوى ان يكون ورقة في المفاوضات الأميركية – الإيرانية، وهي مفاوضات تريد "الجمهوريّة الإسلاميّة" من خلالها، التوصل إلى صفقة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي تضمن لها لعب دور القوّة المهيمنة في المنطقة كلّها ومتابعة السير في مشروعها التوسعي، الذي يشرف عليه "الحرس الثوري" بل الحصول على تمويل اميركي له.
سيظلّ الإنسداد سيّد الموقف في العراق نظرا إلى ان الإدارة الأميركيّة على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها اللوبي الإيراني في واشنطن، وعلى الرغم من تعاطف روب مالي، المسؤول عن الملفّ الإيراني في الإدارة، عاجزة عن التوصل إلى مثل هذه الصفقة. يعود ذلك إلى أسباب عدّة من بينها المعارضة القويّة في مجلسي الكونغرس لمثل هذا التوجّه الذي ينمّ عن قصر نظر وسذاجة اميركيين... وإلى اعتراض دول المنطقة، وليس إسرائيل وحدها، على ايّ استسلام امام الشروط الإيرانيّة.
يشير ما يشهده العراق هذه الأيّام، خصوصا في ضوء تقديم نواب الكتلة الأكبر (الكتلة الصدريّة) استقالتهم، إلى استحالة إقامة نظام قابل للحياة في ظلّ سيطرة السلاح على الحياة السياسيّة. يتبيّن يوميا ان لا مجال لأي حياة سياسيّة ذات معنى ما دامت الكلمة الأخيرة للسلاح وليس للأكثرية الموجودة في البرلمان، وهي أكثرية تضمّ نوابا شيعة وسنّة واكرادا.
كما في العراق، كذلك في لبنان، يبدو السلاح اقوى من الانتخابات. لا معنى لإنتخابات نيابيّة في لبنان ما دام سلاح "حزب الله" يسمح بانتخابات في هذه المنطقة ولا يسمح بها في منطقة أخرى. لا يمكن للشعب اللبناني ولا لأبناء الطائفة الشيعية المعترضين على سلوك الحزب الحؤول دون حصول "حزب الله" على 27 نائبا شيعيا من اصل 27 في مجلس النواب. تبدو كلّ الوسائل مشروعة، من وجهة نظر الحزب، لتأمين احتكار التمثيل الشيعي وفرض قوانين اللعبة السياسيّة في لبنان.
لم يعد من معنى أيضا لإنتخابات نيابيّة في العراق. لا احترام من أي نوع للدستور في ضوء خسارة أحزاب ايران الانتخابات وحصول الكتلة الصدريّة على اكبر عدد من النواب (73 نائبا).
في الأحوال الطبيعيّة، علما ان الأحوال في العراق لم تكن يوما طبيعيّة، وبموجب الدستور العراقي المعمول به، تقرّر هذه الكتلة من سيشكل الحكومة الجديدة استنادا إلى تحالفات تتوصّل اليها. وهذا ما حصل بالفعل مع قيام تحالفات بين الصدريين وقسم كبير من السنّة وقسم اساسي من الأكراد ممثلين بمسعود بارزاني. من الواضح انّ ذلك لم يعجب ايران التي تخشى تحالفا واسعا يفضي إلى تشكيل حكومة تتمتع بحدّ ادنى من التماسك بين اعضائها قادرة على تأكيد ان العراق هو العراق وايران هي ايران.
اضطر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى الطالب من نواب كتلته تقديم استقالاتهم. انتقل إلى المعارضة بعدما كان يمتلك مع حلفائه الأكثريّة في مجلس النواب. ليس معروفا ما الذي ستكون عليه خطوته المقبلة، لكنّ الواضح انّه يريد تنفيس الغضب الشعبي العارم ووضع حدّ لمهزلة السلاح يتحكّم بالإنتخابات في العراق.
في لبنان وفي العراق، النتيجة واحدة. لا حياة سياسيّة في بلد يتحكّم به السلاح، فكيف اذا كان هذا السلاح ميليشيوي ومذهبي وتابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني، كما حال "حزب الله" في لبنان وميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق؟
ثمة خلاصة وحيدة يمكن استنتاجها من الحالتين العراقيّة واللبنانيّة. تقول هذه الخلاصة انّ لا مستقبل لبلد تحكمه ميليشيات مذهبيّة تابعة لإيران ولغير ايران. صار كلّ المطلوب أن يموت العراق ولبنان كي يحيا النظام في ايران وكي يتمكن من عقد صفقة مع الإدارة الأميركية بموجب شروطه، علما انّ ذلك مستحيل في الظروف الراهنة لإسباب داخليّة اميركيّة أوّلا.
يبقى اخطر ما في الأمر، إن بالنسبة إلى العراق أو بالنسبة إلى لبنان، أنّ ليس لدى "الجمهوريّة الإسلاميّة" ما تصدره إلى البلدين سوى البؤس والخراب. في الواقع، ليس لدى ايران ما تصدّره غير هاتين البضاعتين. لو كان لديها نموذج آخر تصدره لكانت فكّر النظام في ما آل اليه الشعب الإيراني الذي بات اكثر من نصفه يعيش تحت خط الفقر.
سقط العراق، بغض النظر عن ارتكابات النظام البعثي سابقا، نتيجة الاحتلال الأميركي في نيسان – ابريل من العام 2003 وتسليم إدارة بوش الإبن البلد على صحن من فضّة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران. سقط لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، وهو اغتيال يشكّل تتمة طبيعية لسقوط العراق في يد ايران. في السنة 2022، لم يعد لا في العراق ولا في لبنان نظام قابل للحياة. هناك فقط السلاح الإيراني الذي يتحكّم بكلّ مفاصل البلد. ثبت بعد الانتخابات الأخيرة في لبنان ان "حزب الله" يمتلك اكثريّة في مجلس النواب. صحيح انّها ليست أكثرية مريحة، لكنها كافية كي يثبت ان المجلس النيابي خاتم في الاصبع الإيرانية وأن السلاح صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير مصير البلد. الأكيد ان مقتدى الصدر ما كان ليقدم على ما اقدم عليه لولا شعوره باليأس وبعجز عن تشكيل حكومة جديدة تتمتع بحدّ ادنى من التجانس. اختار الزعيم الشيعي العراقي المعارضة من خارج مجلس النواب، أي في الشارع. هل هذه مغامرة... ام مقدمة لأحداث كبيرة ينتظرها البلد الذي لم تعد من حلول لمشاكله اليوميّة في ظلّ تحكم السلاح المذهبي الفالت بالسياسة وليس العكس.