خيرالله خيرالله
لا تزال هناك بقية من أخلاق وقيم في واشنطن دي. سي. لا يزال هناك من يسعى إلى تسمية الأشياء بأسمائها، والقول إن ثمّة مواقف معيبة اتخذتها إدارة باراك أوباما خصوصا حيال ثورة الشعب السوري الذي يبحث منذ ما يزيد على خمس سنوات عن بعض من كرامة.
كانت المذكرة الداخلية التي وقعها واحد وخمسون من موظفي وزارة الخارجية الأميركية بمثابة إشارة إلى ذلك الشعور الحقيقي السائد داخل الوزارة تجاه إدارة لم تعمل منذ ما يزيد على خمس سنوات سوى إلى إطالة مأساة الشعب السوري بكلّ ما أتيح لها من وسائل.
أراد موظفون في وزارة الخارجية، عبر المذكّرة، التعبير عن رأيهم الصريح بإدارة بائسة ارتضت التفرج على مأساة إنسانية لا سابق لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لا أكثر. شاء هؤلاء القول إن السكوت عن هذه المأساة لم يعد ممكنا، علما أنهم لا يمتلكون أي وسيلة أخرى غير توقيع هذه المذكرة الداخلية التي لا تخالف القانون، بل هي مسموح بها بمقدار ما أنهّا وسيلة لتنفيس غضب هؤلاء الموظّفين.
قبل أيام، نشرت الصحف الأميركية، بينها “نيويورك تايمز”، معلومات عن هذه المذكرة التي تطالب بتوجيه ضربات جوية إلى المـواقع العسكـرية التابعة للنظام السوري من أجل وقف المجـزرة التي يتعرض لها شعب بكامله. ولكن ما الذي يستطيع موظفون في الوزارة عمله عندما نجد أن باراك أوباما يتلذّذ بالمشهد السوري من جهة، ويقبل بترك المبادرة لروسيا وإيران وإسرائيل، غير آبه بما يحلّ بأبناء هذا الشعب، من جهة أخرى؟
في الواقع، ليست المذكرة، التي لن تغيّر شيئا في السلـوك الأميـركي، سـوى تعبيـر عـن اعتـراض داخلـي على إدارة بـاراك أوبـاما التي قرّرت التفرّج على ما يدور في الشرق الأوسط من مكان بعيد، وإطلاق التهديدات الفارغة من أي مضمون بين حين وآخر.
ما نلمسه من خلال المذكرة موقف أخلاقي قبل أيّ شيء آخر. هناك موظّفون أميركيون، مازالوا في الخدمة، يعترضون على الإدارة بالطرق القانونية المسموح بها. لا يستطيعون الذهاب إلى أبعد من ذلك. لكنّهم يعترضون. تعود أهمّية هؤلاء الموظفين إلى أنّ كلّا منهم تعاطى من قريب أو بعيد مع الموضوع السوري، أي أن كل موظف من هؤلاء يعرف، تماما، حجم المأساة السورية. إنهم يعرفون جيّدا ما الذي على المحكّ في سوريا، وماذا تعني مسايرة نظام مسؤول عن قتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري وتشريد الملايين إن داخل البلد أو خارجه.
سبق لموظفين كبار أن اعترضوا على سياسة أوباما. استقال عدد لا بأس به من وزراء الدفاع، آخرهم كان تشاك هيغل. فوجئوا بأن الرئيس الأميركي لا يريد أن يستمع لأحـد باستثناء أفراد الحلقة الصغيرة المحيطة به، والتي يتعاطف معظم المنتمين إليها مع إيران، ويعتبرون أن لا خيار آخر سوى الـرهان عليها. فالملف النووي بالنسبة إلى أوبـاما نفسه وأفراد هذه الحلقة المحيطة به يختزل كل مشاكل الشرق الأوسط. هل يمكن التضحية بالشرق الأوسط من أجل استرضاء إيران وضمان تقيدهـا ببنود الاتفاق في شأن ملفّها النووي؟ لماذا على الشعب السوري أن يدفع الضريبة عن سياسة يدفع ثمنها من لحمه ودمه؟
ما لم يقله موقعو المذكرة أنّ كفى تعني كفى، وأن باراك أوباما يؤسس لسياسة أميركية لا علاقة لها بالأخلاق من قريب أو من بعيد. صحيح أن السياسة الأميركية لم تكن دائما سياسة ذات طابع أخلاقي، لكنّ الصحيح أيضا أنّه لم يسبق لأيّ إدارة أميركية أن وصلت إلى هذا الدرك.
كان موقف أوباما صيف العام 2013، عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، أفضل دليل على أنّ أميركا التي عرفناها لم تعد موجودة. فالرئيس الأميركي كان هدّد بالرد على أي استخدام للسلاح الكيميائي واصفا ذلك بأنّه “خط أحمر”. تبيّن أن باراك أوباما، وهو أول رئيس أسود يدخل إلى البيت الأبيض، يرى كل الألوان باستثناء اللون الأحمر. تبيّن أيضا أن العـلاقة التي أقامها أوباما مع إيران هي من الأهمّية بالنسبة إليه، إلى درجة أنه ليس مسموحا له القيام بأي عمل في سوريا من دون رضا طهران ومباركتها، ومن دون تشاور في العمق مع إسرائيل أو مع روسيا.
تكمن الفضيحة الكبرى في أن هناك توافقا إيرانيا ـ روسيا ـ إسرائيليا على بقاء بشّار الأسد في دمشق نظرا إلى أن وجوده في قصر الرئاسة، على الرغم من أنّه وجود شكلي فقط، يشكّل الطريق الأقصر لقطع الطريـق على أي حلول تصب في إنقاذ سوريا من خطر التقسيم والتفتيت، أي من حروب داخلية لا نهاية لها إلا بتحول البلد إلى مجموعة محميات. ستكون إحدى هذه المحميات تحت النفوذ التركي، وأخرى تحت النفوذ الروسي، والثالثة، مرتبطة بممر إلى لبنان، تحت النفوذ الإيراني، والرابعة تحت النفوذ الإسرائيلي. يمكن أن تكون هناك محميّة خـامسة هي دولة كردية ليس ما يشير إلى الآن أن هناك اعتراضا روسيا أو أميركيا عليها. ما دام الشرق الأوسط في حال مخاض وهناك تغيير للخرائط، لماذا لا تكون للأكراد دولتهم، خصوصا بعدما تبين أن لا مجال إلى إعادة الحياة إلى العراق كبلد موحّد؟
تبدو مذكرة موظفي وزارة الخارجية الأميركية أكثر من حدث عابر، لا لشيء سوى لأنّها تطرح سؤالا في غاية الأهمّية بالنسبة إلى المستقبل: هل سياسة باراك أوباما هي السياسة الأميركية الدائمة، أم أن شيئا سيتغيّر في غضون بضعة أشهر عندما ستدخل هيلاري كلينتون… أو دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؟
الخوف، كل الخوف، أن تكون الكارثة التي حلت بسوريا من النوع الذي لا علاج له في ضوء التدمير الممنهج الذي تعرّض له النسيج الاجتماعي في البلد من جهة، ومؤسسات الدولة من جهة أخرى.
في كلّ الأحوال، إذا كان من سياسة سورية لأوباما، فإن هذه السياسة أدّت الغرض المطلوب، أي الانتهاء من سوريا عبر اعتماد موقف أقل ما يمكن أن يوصف به أنه غير أخلاقي. كل ما فعله موظفو الخارجية الأميركية أنّهم ذكروا الرئيس الأميركي الأسود، الذي جاء إلى البيت الأبيض رافعا رايات التغيير، بأن هذا التغيير كان يفترض أن يأتي بالمزيد من الالتزام بالأخلاق، بدل المزيـد من الابتعـاد عنهـا. صحيح أن السياسة والأخلاق لا اتفـاق بينهما ولا توافق في أحيان كثيرة، لكنّ الصحيح أيضا أن المناداة بالتغيير، كمـا فعل أوبـاما، لا تعنـي بالضرورة كل هذا الابتعاد عن الأخلاق!