يصعب الفصل بين جريمة ربط لبنان بحرب غزّة من جهة وجريمة اغتيال منسق حزب «القوات اللبنانيّة» في جبيل باسكال سليمان من جهة أخرى.
الجريمة التي ذهب ضحيتها باسكال سليمان سياسيّة بامتياز، ولا علاقة لها بسرقة سوريين لسيارة باسكال.
تقع الجريمة في سياق واحد وحيد هو إسكات كّل صوت لبناني يعترض على قرار «حزب الله» القاضي بفتح جبهة الجنوب لأسباب مرتبطة بحسابات إيرانيّة ولا شيء آخر.
تبدو الرسالة من وراء خطف المسؤول «القواتي» في وضح النهار ثم تصفيته والعثور على جثته في الأراضي السوريّة واضحة.
الرسالة ليست موجهة إلى الدكتور سمير جعجع وحده بل موجهة إلى كل لبناني يتجرأ على الإعتراض على فتح جبهة جنوب لبنان وقبل ذلك على التنديد بوضع إيران يدها على البلد.
الرسالة واضحة كلّ الوضوح، ذلك أن المطلوب من المسيحيين الصمت ثم الصمت والصمت على غرار ما هو حاصل مع السنّة المدعوين إلى المشاركة في قصف إسرائيل من جنوب لبنان مع تقديم كلّ التسهيلات المطلوبة من أجل ذلك.
بكلام أوضح، مطلوب أن تختزل «الجماعة الإسلاميّة» سنّة لبنان حتّى لو كان ثمن ذلك عراضة مسلّحة ذات طابع إستفزازي في بيروت... أو سقوط شبان ضحايا، كما حصل في بلدة الهبارية الحدوديّة وغيرها!
ليس صدفة أن يسارع حسن نصرالله الأمين العام لـ«حزب الله» إلى التصدي الإستباقي لأيّ تلميح إلى دور حزبه في خطف باسكال سليمان وأن يوجه تحذيرا شديد اللهجة إلى «القوات اللبنانيّة» و «الكتائب».
بدا من كلام نصرالله الذي يعبّر عن أزمة عميقة يعاني منها حزبه كأنّه مطلوب إفهام الحزبين المسيحيين أنّهما في موقع المتهم.معنى ذلك أنّه لا يحقّ لأي منهما، من وجهة نظر نصرالله، تناول أي موضوع يتعلّق من قريب أو بعيد بـ«الاحتلال الإيراني» ونتائجه التي يعاني منها لبنان.
أخر هذه النتائج مصادرة قرار الحرب والسلم والدخول في حرب مع إسرائيل من دون تفكير في النتائج المترتبة على ذلك، خصوصا لجهة تهجير عشرات الآلاف من أهل الجنوب وتدمير مئات المنازل في قرى عدّة كانت في غنى عن هذه الحرب... كان السيناريو الذي وضع للجريمة فاشلا إلى حد كبير، خصوصا في ما يخصّ التركيز على «عصابة من السوريين» تريد سرقة سيارة باسكال سليمان.
المفارقة، بل النكتة ذات الطابع المأساوي، أنّه عثر على السيارة التي قيل أنّها تعرّضت للسرقة في طرابلس... وعثر على الجثة في الأراضي السورية!أكثر من أي وقت، تبدو الحاجة إلى تحويل الأنظار عن «الاحتلال الإيراني» وحرب الجنوب التي تسبب بها هذا الاحتلال... إلى المشكلة الناجمة عن وجود نحو مليوني سوري في لبنان.
هذه بالطبع مشكلة كبيرة تشكل تهديدا وجوديا للبنان وتستدعي كلّ إهتمام ومعالجة من نوع مختلف في العمق. لكنّه لا يمكن تجاهل أنّ المجتمع الدولي يساعد لبنان في الحدّ من هذه المشكلة عبر مساعدات يقدمّها إلى النازحين السوريين.
كذلك، هناك قلق لدى الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة بسبب عدم قدرة هؤلاء السوريين على العودة إلى بلدهم وإلى قراهم وبلداتهم والأرض التي أتوا منها.
تعرف منظمات الأمم المتحدة، قبل غيرها، أن العائق الأبرز والأهمّ في وجه عودة السوريين هو النظام السوري نفسه الذي يسعى منذ اندلاع الثورة الشعبية في مارس من العام 2011، أي منذ ثلاثة عشر عاما، إلى تهجير أكبر عدد من أهل السنّة من الأراضي السوريّة.
أكثر من ذلك، هناك عشرات آلاف السوريين الذين نزحوا من قراهم القريبة من الحدود إلى داخل لبنان بعد سيطرة «حزب الله» على هذه القرى في مرحلة تورطه المباشر في الحرب على الشعب السوري ابتداء من 2012.
بدل الثورة على الإحتلال الإيراني، يبدو مطلوبا، في ضوء السيناريو الذي ترافق مع خطف باسكال سليمان، التنكيل بالسوريين في لبنان من دون سؤال في شأن ما الذي سيجنيه اللبنانيون من ذلك في هذه الظروف بالذات.
في النهاية، لا يمكن التغاضي عن أن معظم السوريين الموجودين في لبنان يفضلون العودة إلى بلدهم في حال تأمنت لهم الظروف الملائمة والضمانات اللازمة.مرّة أخرى، من المفيد الإشارة إلى أن النظام الأقلّوي القائم لا يريد ذلك، بل يريد بقاء هؤلاء في لبنان والأردن وتركيا وفي أي مكان خارج سورية أو في مناطق خارج سيطرة النظام.
لا مانع لدى «حزب الله» في تحويل الأنظار عمّا يجري في جنوب لبنان إلى مواجهة مع السوريين في كلّ الأراضي اللبنانيّة، خصوصا في المناطق المسيحيّة.
يأتي ذلك في وقت ليس معروفا بعد كيف ستردّ إيران على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق وإغتيالها لسبعة من كبار قادة «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» على رأسهم محمد رضا زاهدي العضو الإيراني في «مجلس الشورى» الذي يتخذ القرارات الكبيرة داخل الحزب.
صحيح أنّ لا أدلة دامغة بعد، كما الحال في قضيّة إغتيال رفيق الحريري ورفاقه، على تورط الحزب في إغتيال المسؤول «القواتي» في جبيل.
لكنّ الصحيح أيضا أنّ لا أحد غير الحزب يمتلك السلاح في لبنان ولا أحد غيره يتمنّى فتنة بين المسيحيين والسوريين في لبنان.
هذا ما يفترض أن يتذكره كلّ لبناني في مرحلة ما بعد جريمة إغتيال باسكال سليمان الذي ذنبه الوحيد إعتقاده أنّه لا تزال هناك دولة، أو بقايا دولة، في لبنان...