أكثر من طبيعي اعتراف إسرائيل بمغربيّة الصحراء عبر رسالة بعث بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الملك محمّد السادس.
حاولت إسرائيل المناورة طويلاً قبل اكتشافها مدى جدية الموقف المغربي من الصحراء، خصوصاً أن محمّد السادس ينظر إلى العلاقة بين المملكة وأي دولة أخرى في هذا العالم الواسع، مهما علا شأنها، من منظور الصحراء.
أي من منظور أنّ الصحراء مغربيّة وتشكّل جزءاً لا يتجزأ من الأرض المغربية... ولا جدال في ذلك.
كان مهمّا تأكيد نتنياهو أن «موقف بلاده هذا سيتجسد في كل أعمال الحكومة الإسرائيلية ذات الصلة ووثائقها»، مشدّداً على أنه سيتم «إخبار الأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر إسرائيل عضواً فيها، كذلك جميع البلدان التي تربطها بإسرائيل علاقات ديبلوماسية».
في ضوء هذا القرار، أشار أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي في رسالته إلى ملك المغرب إلى أن إسرائيل تدرس إيجابياً، «فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة». في الداخلة وليس في مكان آخر الذي يصرّ المغرب على عقد أي لقاءات مع إسرائيل وغير إسرائيل فيه.
يعطي القرار الإسرائيلي فكرة عن أمرين. الأوّل مدى جدية المغرب في التعامل مع قضيّة الصحراء التي افتعلتها الجزائر في سياق حرب استنزاف تشنها عليه منذ سنوات طويلة، منذ العام 1975 تحديداً.
الأمر الآخر أن إسرائيل لم تستطع التهرب من التعاطي مع الواقع على الرغم من الموقف المغربي الواضح من الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه الوطنيّة، بما في ذلك قضيّة القدس الشرقيّة.
يظلّ ملك المغرب رئيس لجنة القدس والمدافع عن الجانب الشرقي من المدينة التي تضمّ المقدسات الإسلاميّة والمسيحيّة والتي احتلتها إسرائيل منذ يونيو العام 1967.
مثل هذا الموقف الثابت للرباط لا يعني تخلي المغرب عن التزاماته تجاه أي طرف آخر، كما لا يعني قبول تخلي أي طرف آخر عن تعهداته تجاه المغرب.
في النهاية، لا يمكن تجاهل أن صفقة التبادل الديبلوماسي مع إسرائيل والتي بنيت على اعتراف الولايات المتحدة بمغربيّة الصحراء صفقة متكاملة ومركّبة في الوقت ذاته.
شملت الصفقة التزام الدولة الأقوى في العالم، أي الولايات المتّحدة الأميركيّة، الإقرار بواقع متمثل في مغربيّة الأقاليم الصحراويّة.
دلّت هذه الصفقة على العقل السياسي المتطور الذي يمتلكه محمّد السادس من جهة ومدى معرفته بتعقيدات هذا العالم من جهة أخرى.
لكنّها دلت خصوصاً على قدرة المغرب على حماية مصالحه الوطنية في ظلّ كلّ هذه التطورات الدوليّة التي قلبت موازين القوى في مناطق معيّنة من العالم رأساً على عقب.
حدث ذلك في ظلّ الحرب الأوكرانية وما خلفته من مآس وتهديدات لأوروبا بكلّ دولها.
تكمن أهمية المغرب الذي عرف كيف يدافع عن وحدته الترابيّة في انتمائه إلى العالم المتحضر بعيداً عن الشعارات الفارغة.
ما كان المغرب لينجح في خوض معركة استعادة الصحراء لولا وعي شعبه لأهمية هذه القضيّة بصفة كونها قضيّة وطنيّة أولاً. كان الوعي الواضح لذلك منذ انطلاق «المسيرة الخضراء» في نوفمبر 1975، بمجرد انسحاب الاستعمار الإسباني من الصحراء.
لم يؤد المغرب خدمة لنفسه أوّلا فقط. بل ملأ الفراغ الذي خلفه الاستعمار الإسباني، وهو فراغ كان يُخشى من انقلابه وبالاً على المنطقة كلّها في ظلّ الحرب الباردة التي كانت سائدة وقتذاك وفي ظلّ الاستعداد الذي أبداه في حينه معمّر القذافي في الاستثمار في حال الفوضى.
كان القذّافي في مرحلة معيّنة الحليف الأوّل لتلك الأداة المسماة «بوليساريو».
في الوقت ذاته، كان النظام الجزائري يسعى في كلّ وقت إلى استغلال ضياع بعض الصحراويين من أجل إيجاد ممر له إلى المحيط الأطلسي.
كان النظام الجزائري، ولا يزال، يعتقد أنّ المهمّ بالنسبة إليه حماية الجزائر من الإرهاب وتأمين ممر إلى الأطلسي، فيما لا يهمّه ما يحدث في خارج أراضيه، بما في ذلك في الساحل الصحراوي.
كلّما مرّ الوقت تتبين أهميّة المملكة المغربيّة وأهمّية مؤسساتها القديمة التي عمرها مئات السنين، في مقدّمتها المؤسسة الملكيّة.
ليس الموضوع موضوع إسرائيل التي اعترفت بمغربيّة الصحراء بموجب الشروط المغربيّة فحسب، بل هو موضوع العلاقة بين يهود المغرب في إسرائيل وخارجها والعرش المغربي أيضاً.
لم يعد سرّاً وجود ذلك الولاء لأي مواطن مغربي، أكان مسلماً أو يهودياً للمؤسسة الملكيّة.
هناك بلد يعتبر فيه الجالس على العرش مسؤولاً عن كلّ مغربي وعن كلّ شخص مقيم في داخل البلد.
المغرب بلد يجمع بين التاريخ والمعاصرة في آن. من هذا المنطلق، ليس مستغرباً ذلك الاهتمام، على أعلى المستويات، بكلّ ما يهمّ المواطن المغربي. بدءاً بالتغيير المناخي وصولاً إلى مستوى التعليم وتحديثه، مروراً في طبيعة الحال بحقوق المرأة والحريّات الشخصيّة وغلاء المعيشة ومعالجة مشكلة المياه والخدمات العامة وكلّ ما هو مرتبط بالبنية التحتيّة.
ليس الاعتراف الإسرائيلي بمغربيّة الصحراء سوى تتويج لجهود أخرى أدت في الماضي إلى الاعتراف الأميركي الذي لم يكن عابراً، كما اعتبر بعض الجهلة.
جاءت إدارة جو بايدن لتؤكّد ما قامت به إدارة دونالد ترامب. كان المغرب والموقف منه ومن صحرائه، بين النقاط النادرة التي حصل في شأنها توافق بين إدارتي ترامب وبايدن اللتين اختلفتا في كلّ شيء.
يتابع المغرب مسيرته في ظلّ تحسّن كبير في المواقف الأوروبيّة من قضية الصحراء. يحصل ذلك من دون أي تخلّ مغربي عن الثوابت، بما في ذلك دعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل استعادة حقوقه التي لا يمكن أن يستعيدها من دون دعم عربي له ومن دون فتح خطوط حوار مع الجانب الإسرائيلي تؤدي إلى عملية سلميّة حقيقيّة.
لا مجال أمام استيعاب غير الاستيعاب في مرحلة معيّنة أن ليس في استطاعتها إلغاء شعب آخر موجود على أرض الواقع.
يقدّم المغرب في كلّ وقت ما يستطيع تقديمه. يثبت في الوقت ذاته أنّه دولة قويّة تستمد عزمها من ثوابتها وغنى شعبها والعلاقة العميقة القائمة بينه وبين العرش...