تجاوز الدولار الأميركي في لبنان عتبة الـ50 ألف ليرة في غياب القدرة على انتخاب رئيس للجمهوريّة كمدخل للبحث الجدي عن مخرج من أزمة مركّبة يبدو أنّ لا حلّ داخلياً لها.
من الواضح أنّ لا وجود في الأفق لما يمكن أن يوقف الانهيار اللبناني.
يعود ذلك إلى أن الطرف المسيطر على البلد سيطرة كاملة، وهو إيران، ليس مهتماً بما يحلّ بلبنان بمقدار ما أنّ البلد يشكل بالنسبة إليه ورقة من أوراقه في المواجهة التي يخوضها مع «الشيطان الأكبر» الأميركي.
يفسّر أهمّية لبنان بالنسبة إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة» بدء وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان جولته في المنطقة بزيارة بيروت التي يتحكّم بالقرار السياسي فيها «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني.
من بيروت، توجه الوزير الإيراني إلى دمشق لإفهام بشّار الأسد أن هذا ليس وقت المزاح والمناورات وأن سورية، على غرار لبنان، ورقة إيرانيّة أخرى لا أكثر.
انتقل عبداللهيان من دمشق إلى أنقرة ليقول للجانب التركي إن القرار السوري، إلى إشعار آخر، قرار إيراني... وأنّ لا قيمة للضغوط الروسيّة الهادفة إلى تقارب بين تركيا والنظام السوري.
من وجهة النظر الإيرانيّة، يُبحث موضوع سورية في إطار استانة، وهو إطار إيراني - روسي - تركي.
كلّ ما يخرج عن هذا الإطار مرفوض إيرانيّاً، ما يدور في لبنان لعبة أكبر بكثير من هذا البلد الصغير الذي رسّم أخيراً حدوده البحريّة مع إسرائيل بضوء أخضر إيراني واضح كان رسالة موجهة من طهران إلى الإدارة الأميركيّة.
يبدو أنّ الإدارة الأميركيّة، في ضوء ما يحدث في أوكرانيا حيث باتت إيران شريكة في الحرب التي يشنها فلاديمير بوتين على هذا البلد الأوروبي، لم تعر موقف «الجمهوريّة الإسلاميّة» أي أهمّية.
مازال موقف واشنطن من إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني يراوح مكانه بعدما تجاوزته الأحداث.
ثمّة جانب من المأساة اللبنانيّة يتمثل في أن لبنان ليس أولويّة أميركيّة في أيامنا هذه. لم يكن كذلك في يوم من الأيام باستثناء تلك المرحلة التي كان يشكل فيها تهديداً لأسرائيل. لا يهمّ كلّ الإدارات الأميركية سوى أمن إسرائيل... وعدم تحول لبنان إلى مشكلة إقليمية.
تلك كانت مخاوف هنري كيسينجر الذي قرّر إرسال مبعوث إلى لبنان (دين براون) في أواخر العام 1975 كمقدمة لاتفاق يمكّن الجيش السوري من دخول الأراضي اللبنانيّة بغية السيطرة على المسلحين الفلسطينيين وقواعدهم.
الآن وقد استطاعت إسرائيل التفاهم مع ايران في شأن الحدود البحريّة، تستطيع الولايات المتحدة اتخاذ موقف المتفرج حيال ما يدور في هذا البلد. تعرف الإدارة الأميركيّة قبل غيرها أن إيران لا يمكن أن تقدم على أي مغامرة من لبنان نظراً إلى خشيتها من قضاء إسرائيل على «حزب الله»، علما أنّ ذلك سيكلفها خسائر كبيرة.
في هذا الوقت، مع تعذر انتخاب رئيس للجمهورية لأسباب إيرانيّة، تظلّ أوهام قسم كبير من المسيحيين اللبنانيين مجرّد أوهام وروايات سمجة من نوع أن المبعوث الأميركي دين براون عرض عليهم الهجرة من لبنان مبدياً استعداده للإتيان بسفن لتحقيق هذا الغرض!
يوجد عدد كبير من المسيحيين اللبنانيين، من الذين لم يهجرهم ميشال عون و«حزب الله» بعد، مازالوا يصدقون هذه الرواية المبكية غير مدركين طبيعة الحال التي وصل إليها بلدهم.
يدفع لبنان، بمسيحييه ومسلميه غالياً ثمن وصول شخص مثل عون إلى موقع رئيس الجمهورية يرافقه صهره العزيز.
يدفع غالياً ثمن وجود رئيسين للجمهورية في الوقت ذاته. ليس غياب رئيس للجمهورية سوى نتيجة طبيعية لقبول قسم كبير من المسيحيين أن يكون «حزب الله» من يقرّر من هو المقيم في قصر بعبدا بدل أن يكون هذا القرار لمجلس النواب.
تبدو أزمة لبنان مركبّة، إضافة إلى أنّها تتجاوز البلد الصغير.
لذلك لا فائدة تذكر من السعي إلى انتخاب رئيس للجمهورية بعدما قرّرت إيران، عبر أداتها اللبنانيّة، أنّها لا يمكن أن تقبل برئيس لا يمتلك مواصفات معيّنة. مواصفات من نوع «مقاومة» أميركا وسياستها و«عدم طعن المقاومة في الظهر».
كلّ ما هو مطلوب من الرئيس الجديد أن يكون في إمرة «حزب الله»، تماماً كما كانت الحال مع ميشال عون وصهره الذي يرفض الاعتراف بأنّه نتاج معادلة «السلاح يحمي الفساد» التي طبقها الحزب بنجاح في تعاطيه مع «التيار الوطني الحر»، أي التيّار العوني الذي بات جبران باسيل على رأسه.
بعيداً عن الأوهام، لدى المسيحيين وغير المسيحيين، لا يضرّ لبنان انتخاب رئيس للجمهوريّة. ما يضرّه تجاهل أن سلاح «حزب الله» الذي يعبّر عن الاحتلال الإيراني في أساس الأزمة المصيريّة التي يعاني منها البلد.
اختار هذا السلاح المذهبي الميليشيوي ميشال عون رئيساً للجمهورية عندما كانت الحاجة إلى غطاء مسيحي له. يشكل ميشال عون ضمانة لاستمرار عملية تدمير الاقتصاد اللبناني الذي أعاد رفيق الحريري، المعروف من اغتاله، الحياة إليه.
لبنان إلى مزيد من الانهيار. كلّ ما يقوم بعض النواب «الإصلاحيين» من نشاطات ذات طابع فولكلوري من أجل فرض انتخاب رئيس للجمهورية لا يقدّم ولا يؤخر في ظلّ إصرار «حزب الله» على رفض رئيس لا يكون في خدمة المشروع التوسعي الإيراني المعادي لكلّ ما هو عربي في المنطقة.
متى تنتهي الأوهام المسيحية في لبنان؟ يبدأ ذلك بالاتفاق على شخصية معتدلة تعرف المنطقة وأهمّية العرب بالنسبة إلى لبنان ولا تفرط بالسيادة الوطنيّة غير القابلة للتجزئة.
مثل هذا الاتفاق يبدو مستحيلاً في غياب استيعاب باسيل أنّ لا مستقبل سياسياً له ولأمثاله من «عونيين» من جهة وأن كلّ ما يفعله الآن، عندما يرفض الإتيان بمسيحي عاقل نظيف الكفّ يرفض المال الفاسد رئيساً للجمهورية، ليس سوى استكمال لخدماته السابقة لـ «الجمهوريّة الإسلاميّة» ومشروعها الإقليمي من جهة أخرى.