المنظمات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة تقتات من الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني. إلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟ إلى متى يمكن أن تستمر سياسة نتانياهو التي أقل ما يمكن قوله عنها إنها سياسة لا أفق لها؟.
يصعب الحديث عن احتمال حصول تقدّم من أيّ نوع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أقلّه في المرحلة القريبة المقبلة. يصعب ذلك على الرغم من الانكشاف الكامل لبنيامين نتانياهو أمام العالم كلّه، بما في ذلك أمام الإسرائيليين أنفسهم، خصوصا أمام المؤسسة العسكرية.
للمرّة الأولى هناك امتعاض واضح داخل المؤسسة العسكرية من تصرّفات “بيبي” وحكومته. تحوّل الجيش الإسرائيلي، بكل بساطة، إلى أداة قمعية في يد أقصى اليمين. وهذا ما يرفضه معظم كبار الضباط الحاليين والمتقاعدين.
صار قتل الفلسطيني على الشبهة أمرا عاديا وكأن الفلسطينيين من غير طينة البشر!
لم يكن سهلا على المؤسسة العسكرية الاستمرار في هذا الخط والرضوخ للمطلوب منها من السياسيين لتبرير استمرار القمع بأبشع صوره، في وقت لم يعد الفلسطينيون يجدون أمامهم غير السكاكين لإثبات أنّهم مازالوا شعبا حيّا يقاوم الاحتلال. بات تمرّد قسم المؤسسة العسكرية على القيادة السياسية علنيا. لعلّ أفضل تعبير عن هذا التمرّد استقالة وزير الدفاع موشي يعلون الذي قال كلاما لا سابق له في تاريخ إسرائيل عن عدم القدرة، لدى الجيش، على متابعة سياسة ذات طابع قمعي. تكمن أهمّية هذا الكلام في أن يعلون ينتمي إلى تكتل “ليكود” اليميني، أي أنّه ليس سياسيا معتدلا. فضلا عن ذلك، إنّه رئيس سابق للأركان. وهذا يعطي كلامه عن “خطف المتطرفين لإسرائيل” معنى وبعدا ما.
في الواقع، هناك تحوّل جذري داخل المجتمع الإسرائيلي. سمح هذا التحوّل لنتانياهو بالإتيان بشخص مثل أفيغدور ليبرمان رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” وزيرا للدفاع بغية توسيع قاعدة حكومته. كان في استطاعته الذهاب بعيدا في مفاوضاته مع زعيم حزب العمل إسحق هرتسوغ، لكنه استعاض عن حزب العمل بـ”إسرائيل بيتنا” كي تزداد حكومته تطرّفا، وكي يؤكد أنّه ليس مهتمّا بأي عملية سلام من أيّ نوع كان.
ليس ليبرمان، الذي كان قبل الهجرة إلى إسرائيل من مولدوفيا مجرّد حارس في ملهى ليلي، سوى دليل على أنه لم يعد من مكان في إسرائيل لأي رجل يمتلك حدا أدنى من المنطق. فوزير الدفاع الجديد لا يمتلك أي خبرة عسكرية من أيّ نوع. لديه تصريحات في غاية التهوّر، بما في ذلك كلام موجه ضد مصر يتضمّن تهديدات بقصف السدّ العالي. نسي ليبرمان الذي سبق أن شغل موقع وزير الخارجية، أن مصر كانت الدولة العربية الأولى التي وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل في العام 1979.
في كلّ الأحوال، ما نشهده حاليا في إسرائيل جزء من تغييرات جذرية في الشرق الأوسط في ظلّ إدارة أميركية تعتبر نفسها غير معنيّة بشؤون المنطقة. تراجع الرئيس باراك أوباما أمام نتانياهو. لم يستطع الرئيس الأميركي عمل شيء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أثبت له المرّة تلو الأخرى أنّه أقوى منه داخل واشنطن نفسها. في إحدى المرّات، خطب “بيبي” في الكونغرس بدعوة مباشرة من زعمائه. تفادى أي توقف في البيت الأبيض ولو من أجل السلام على المقيم فيه، ولو من باب اللياقة.
هناك عوامل عدة تسمح للحكومة الإسرائيلية برفض أيّ مبادرة سلام، بما في ذلك المبادرة الفرنسية. يريد “بيبي” الاستعاضة عن مثل هذه المبادرة بمفاوضات مباشرة مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن) الذي لم يعد يمتلك أي ورقة في أيّ مفاوضات مع إسرائيل، خصوصا في ظلّ الانقسام القائم بين الضفة الغربية وقطاع غزّة من جهة، وإبعاد أيّ قيادي فلسطيني يستطيع المساهمة في تحصين الوضع الداخلي، بما في ذلك داخل “فتح” ومؤسسات منظمة التحرير والسلطة الوطنية من جهة أخرى.
لم يستطع أبو مازن، حتّى، تحمّل الدكتور سلام فياض، في موقع رئيس الوزراء، علما أنّ فيّاض كان الشخص الوحيد المؤهل لبناء مؤسسات فلسطينية تصلح لدولة يمكن أن تبصر النور في يوم من الأيّام، فضلا عن تأكيد أن الفلسطينيين مستعدون لمرحلة جديدة يتحمّلون فيها مسؤولياتهم بكل شفافية، بغض النظر عمّا إذا كان حلم الدولة لا يزال حلما بعيدا.
في غياب الموقف الأميركي الحازم، والميوعة الفلسطينية، وانشغال كلّ دولة عربية بأوضاعها الداخلية، يجد “بيبي” نفسه في وضع مريح يسمح له بتنفيذ سياسته الهادفة إلى تكريس الاحتلال للقدس الشرقية وقسم لا بأس به من الضفّة الغربية. يعرف “بيبي” قبل غيره أنه لم يكن ممكنا التوصل إلى توقيع اتفاقيْ كامب ديفيد في العام 1978، لولا الدور الأميركي الذي مهّد لمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية التي وقعت في 1979. كذلك يعرف أنّ اتفاق السلام الأردني – الفلسطيني في العام 1994 لم يكن ليتحقّق لولا شخص الملك حسين، ولولا وجود شخص اسمه إسحق رابين كان مستعدا لتفهّم ما هي تعقيدات الشرق الأوسط واستيعابها.
لا يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي القيام بأي جهد من أجل السلام. العالم بالنسبة إليه أبيض وأسود. هل ينجح في فرض سياسته في المدى الطويل مستفيدا من الغياب الأميركي وحال الهلهلة الفلسطينية والوضع العربي، فضلا عن الحلف غير المعلن القائم بين متطرفي إسرائيل و“حماس”؟
هناك بداية وعي في إسرائيل نفسها إلى أنّ الوضع الراهن لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية. لا يمكن الاستخفاف بأي شكل بالمؤسسة العسكرية التي لعبت، إلى الآن، دورا في منع الحكومة الإسرائيلية من الإقدام على أي مغامرات تكون امتدادا لسياسة حكومية لا أفق لها.
كلّ ما يمكن قوله إن التغيير في إسرائيل لن يحصل غدا، لكنّه سيحصل يوما على الرغم من أن حركة مثل “حماس” لا همّ لها سوى المحافظة على “الإمارة الإسلامية” التي أقامتها في قطاع غزّة، ستكون مستعدة لتنفيذ عمليات انتحارية، أو إطلاق صواريخ، متى شعرت بأن اليمين الإسرائيلي المتطرف في حاجة إلى مثل هذا النوع من الأعمال والارتكابات.
ما لم يفهمه نتانياهو أنّ المعادلة القائمة في المنطقة في منتهى البساطة. صحيح أن الفلسطينيين، ومن خلفهم العرب، ارتكبوا كلّ الأخطاء الممكنة منذ العام 1916، تاريخ توقيع اتفاق سايكس – بيكو البريطاني – الفرنسي، لكنّ الصحيح أيضا أنّ أهمّية الشعب الفلسطيني تكمن في أنّه استطاع المحافظة على هويته الوطنية التي هي خط الدفاع الأوّل عن قضيّته. لا يمكن للشعب الفلسطيني الموجود على الخارطة السياسية للشرق الأوسط، إلا أن يجد لنفسه مكانا على الخارطة الجغرافية للمنطقة. لا يزال الفلسطيني يؤمن بأنّ أخطاء الماضي، وما أكثرها، لا يمكن أن تلغي القضيّة. لا تزال القضيّة حيّة ترزق.
الواضح هذه الأيّام أن المنظمات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة تقتات من الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني. إلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟ إلى متى يمكن أن تستمر سياسة نتانياهو التي أقلّ ما يمكن قوله عنها إنّها سياسة لا أفق لها؟