توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أحمد الجلبي… العبقري الذي لم يعرف حدود عبقريته

  مصر اليوم -

أحمد الجلبي… العبقري الذي لم يعرف حدود عبقريته

خيرالله خيرالله

في الداخل العراقي، لم يعد أحمد الجلبي يعرف حدود عبقريته لم يعد قادرا على استغلال اللاعبين الكبار، بما في ذلك الولايات المتحدة التي بدأت تدرك أنّه ضلّلها.

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كانت لي جلسة في عمّان في منزل أحد كبار السياسيين الأردنيين من الذين لعبوا دورا في مراحل مفصلية من التاريخ الحديث للمملكة الأردنية الهاشمية.

لسبب لم أعد أذكره، نظر إليّ السياسي الأردني وقال لي إن الكرسي الذي تجلس عليه، جلس عليه قبلك أحمد الجلبي الذي كان يقوم بزيارة لعائلتي وذلك قبل ساعات قليلة من هربه من عمّان. شرح لي السياسي الأردني، وكان صديقا، كيف جاء الجلبي، الذي توفّي في بغداد قبل أيّام، إلى عنده في زيارة خاطفة وكيف غادر بعد ذلك عمّان إلى الخارج في ظروف غامضة وذلك مباشرة بعد انكشاف فضيحة “بنك البتراء” التي هزّت الأردن واقتصاده في العام 1989.

كان ذلك السياسي الأردني، خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت، من أعنف المعارضين لصدّام حسين ونظامه، ومن بين الذين عملوا ضدّه بكلّ ما يستطيعون في مرحلة كان الشارع الأردني متعاطفا، بأكثريته، مع النظام العراقي السابق.

روى السياسي الأردني في الجلسة قصصا عن أحمد الجلبي وكيف استطاع مغادرة الأردن في اللحظة المناسبة بعد صدور مذكرة توقيف في حقّه. كشف لي أنه خسر معه مبلغ مليون دولار، كان حصيلة ما جمعه هذا السياسي الأردني الذي عمل سنوات في المجال المصرفي في نيويورك. أكّد أنّه خسر مع الجلبي جني عمره وقتذاك وذلك بعد أن أقنعه الرجل بتوظيف كلّ ما لديه في صندوق استثمارات كان يديره. سألت عندئذ السياسي الأردني، وكانت زوجته إلى جانبه، ماذا تفعل اليوم في حال كان لديك مليون دولار أخرى تريد توظيفها؟ أجابني بالحرف الواحد أنه “سيعيد توظيفها لدى أحمد الجلبي”. كان يريد إبلاغي فقط كم كانت لدى الرجل قدرة على الإقناع وعلى التأثير في الآخرين.

مقارنة بالسياسيين العراقيين الآخرين إبّان عهد صدّام أو قبله، أي في المرحلة الممتدة من صيف العام 1958، تاريخ الانقلاب العسكري على العائلة المالكة الهاشمية، وحتى يومنا هذا، لا يوجد سياسي عراقي لعب دورا في حجم الدور الذي لعبه أحمد الجلبي. إذا وضعنا جانبا بعض الزعماء الأكراد مثل مسعود بارزاني، كان الجلبي يتلاعب بالآخرين. لم يكن من مجال للمقارنة بين قدراته العقلية وقدرات هؤلاء.

في النهاية، لا مفرّ من الاعتراف بأنّه كان في أساس عمليتين محوريتين تصبّان في خدمة مشروعه النهائي الذي لم يكن من أمل في أن يتحقّق. لم يكن لديه من أمل في بلوغ ما يريد بلوغه، في الجانب الشخصي، لسبب في غاية البساطة يعود إلى أنّه لم يمتلك يوما قاعدة شعبية في العراق. ولذلك، لم يستطع حتّى أن يكون، بعد 2003، على رأس كتلة نيابية ذات شأن.


كانت العملية المحورية الأولى التي أتقنها أحمد الجلبي تتمثّل في اللعب مع الإيرانيين. أما العملية الثانية فتمثّلت في تحقيق التقارب الأميركي-الإيراني والتعاون بين الجانبين تجاه العراق. عمل على ذلك، خصوصا بعد تمكّنه من إقناع إدارة بوش الابن بضرورة التخلّص من صدّام حسين ونظامه.

مرّة أخرى لعبت القدرة على الإقناع لدى أحمد الجلبي دورها في جعل الإدارة الأميركية تسير في مشروع خطّط له بنفسه. استطاع عالم الرياضيات، خرّيج جامعتين أميركيتين مرموقتين، إقناع إدارة بوش الابن بالعلاقة بين صدّام حسين و”القاعدة”، علما أن هذه العلاقة ليست قائمة بأي شكل من الأشكال، إلا في رؤوس الذين كانوا يبحثون عن عذر، أي عذر، مهما كان واهيا لتبرير الحرب على العراق. كان لابدّ من التخلّص من صدّام حسين ونظامه، لكن السؤال الذي سيبقى مطروحا هل العراق ما بعد السنة 2003 في وضع أفضل؟ المطروح الآن مصير العراق وما سيبقى من العراق مستقبلا.

من دون أحمد الجلبي، لم يكن ممكنا حصول التقارب الأميركي-الإيراني والتعاون في العمق الذي قاد إلى حرب 2003. أخذ أحمد الجلبي كلّ المعارضين العراقيين إلى مؤتمر لندن في ديسمبر 2002 وذلك كي يضعوا قاعدة لاتفاق بينهم برعاية أميركية-إيرانية. كان أحمد الجلبي الذي جاء بالجميع في طائرة أقلعت من طهران يدير في الواقع المؤتمر الذي أسّس لمرحلة ما بعد الحرب، من الناحية النظرية. كان المؤتمر في حاجة إلى المكوّن الشيعي. جاء الجلبي بهذا المكوّن بشخص الراحل عبدالعزيز الحكيم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية). جاء عبدالعزيز الحكيم، وقتذاك، إلى العاصمة البريطانية من طهران في طائرة واحدة كان عليها أيضا جلال طالباني ومسعود بارزاني وآخرون كثر.

كان أي خلاف يحصل داخل المؤتمر يحال على أحمد الجلبي الذي عرف كيف يستخدم النفوذ الإيراني والغطاء الأميركي لتحقيق مبتغاه. خرج مؤتمر لندن بالوثيقة الأخطر بالنسبة إلى مستقبل العراق. تضمنت هذه الوثيقة عبارة “الأكثرية الشيعية في العراق” إرضاء لإيران، و”الصيغة الفيديرالية” إرضاء للأكراد. إلى الآن لا يزال العراق يعاني من نتائج الخروج بهذه الوثيقة التي جعلت مستقبل البلد في مهبّ الريح، خصوصا بعد خروج إيران المنتصر الوحيد من حرب 2003.

تلاعب أحمد الجلبي بالأميركيين. عرف تماما كيف يتّخذ القرار في واشنطن. عرف خصوصا كيف يستفيد من أي فرصة تبرز على أرض الواقع. لذلك جعل بول ولفوويتز نائب وزير الدفاع يطرح مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فكرة “الذهاب إلى العراق”. ليس معروفا إلى الآن لماذا طرح ولفوويتز الفكرة في الاجتماع الأول الذي عقدته القيادة الأميركية في كامب ديفيد بعد غزوتي واشنطن ونيويورك اللتين كان أسامة بن لادن و”القاعدة” خلفهما. العارفون يقولون إن نائب وزير الدفاع كان يتكلّم وقتذاك باسم أحمد الجلبي الذي ما لبث أن أخذ الولايات المتحدة إلى كارثة العراق، وذلك قبل الانتهاء من حرب أفغانستان. خاضت الولايات المتحدة حربين في الوقت ذاته بناء على نصائح أحمد الجلبي!

في الداخل العراقي، لم يعد أحمد الجلبي يعرف حدود عبقريته. لم يعد قادرا على استغلال اللاعبين الكبار، بما في ذلك الولايات المتحدة التي بدأت تدرك أنّه ضلّلها. الأخطر من ذلك كلّه، أنّه لم يدرك، أو كان مدركا أكثر من اللزوم، من جهة أخرى، معنى سقوط العراق في يد الميليشيات المذهبية التابعة لإيران ومعنى التدخل الإيراني المباشر في تفاصيل التفاصيل العراقية.

لا شكّ أن أحمد الجلبي كان عبقريا، كما كان شخصيّة جذّابة. ولكن هل استخدم عبقريته من أجل البناء أم من أجل الهدم؟ كان على حقّ في عدائه للنظام الذي أقامه البعث في العراق، ولكن هل النظام الطائفي الذي ساهم في قيامه أفضل… أم كلّ ما في الأمر أنّه لم يعرف في أي لحظة أن في استطاعة آخرين استخدامه أيضا؟ تكمن مأساة أحمد الجلبي في إيمانه بأنه قادر على استخدام الآخرين دائما وبموجب شروطه. بقي مقتنعا بذلك، إلى أن جاء من يستخدمه ويهمّشه. أين نفوذ أحمد الجلبي مقارنة مع نفوذ الإيراني قاسم سليماني في العراق؟

مجرّد مقارنة بين النفوذين، في السنوات القليلة الماضية، تقول كلّ شيء وتختصر كلّ شيء في عراق اليوم…

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحمد الجلبي… العبقري الذي لم يعرف حدود عبقريته أحمد الجلبي… العبقري الذي لم يعرف حدود عبقريته



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon