حزب الله الذي لا يزال يمتلك حسابات خاصة به يسعى إلى إجبار الدولة اللبنانية على التعايش مع سلاحه بحجة أنه صار الآن يتصدى لـ'داعش'.
ليس ما يحمي لبنان إلّا مؤسسات الدولة اللبنانية. هذا هو الدرس الأوّل الذي يفترض استنتاجه من الجريمة التي كانت منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت مسرحا لها. من لا يخرج بهذا الاستنتاج، إنّما يعمل من أجل الاستمرار في الدوران في حلقة مغلقة اسمها الإرهاب والتطرّف المتبادلين.
ضرب الإرهاب الـ”داعشي” برج البراجنة. استهدف منطقة يسيطر عليها “حزب الله” أمنيا. معظم الذين سقطوا كانوا مدنيين من أهالي المنطقة أو الباحثين عن لقمة العيش.
تعتبر هذه المنطقة جزءا من الدويلة التي أقامها “حزب الله” في لبنان والتي حوّلت الدولة اللبنانية مجرّد دويلة في دولة الحزب، الذي ليس في نهاية المطاف سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
من يبحث عن الخروج من حلقة الإرهاب والتطرّف ومواجهة إرهاب “داعش” حقيقة لا يستطيع الهرب من الواقع المتمثّل في أنّه آن أوان أن يعيد “حزب الله” حساباته اللبنانية والسورية في آن.
من دون مثل هذه المراجعة التي تصبّ في تمكين الدولة اللبنانية من ممارسة دورها عبر مؤسساتها الأمنية، لن يكون في الإمكان وضع حدّ لعمليات إرهابية من نوع تلك التي استهدفت برج البراجنة حيث يوجد أيضا مخيّم فلسطيني عمره يزيد على خمسة وستين عاما.
هناك أيضا سلاح فلسطيني غير شرعي في المخيّم، إلى جانب سلاح “حزب الله” الذي لا هدف له سوى ضرب مؤسسات الدولة اللبنانية. على سبيل التذكير فقط، لم يهبط وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر في مطار بيروت في أواخر العام 1973، بل التقى الرئيس اللبناني وقتذاك، سليمان فرنجية، في القاعدة الجوية في رياق. كان ذلك المؤشر الأوّل لبداية النهاية للدولة اللبنانية العاجزة عن استقبال وزير خارجية الولايات المتحدة في مطارها الرسمي. كان لا بدّ من ذهاب كيسينجر إلى قاعدة رياق في سهل البقاع للتأكّد من الفراغ السياسي والأمني في لبنان. استمع وزير الخارجية الأميركي إلى سليمان فرنجية الجدّ يحاول إفهامه ما هي “حقيقة” القضية الفلسطينية. التفت كيسينجر إلى المترجم ليقول له إنّه سيغط قليلا وأن في استطاعته إيقاظه متى ينتهى الرئيس اللبناني من محاضرته!
الأهمّ من المحاضرة التي ألقاها سليمان فرنجية الجدّ على وزير الخارجية الأميركي، الذي يعرف الشرق الأوسط عن ظهر قلب ولديه وجهة نظره من كل أزمة من أزماته، أنّ كيسينجر اعتبر أن لا وجود لدولة لبنانية.. ما دامت هذه الدولة لا تسيطر على مطار العاصمة وأن في إمكان صاروخ يطلق من برج البراجنة إسقاط طائرته!
بكلام أوضح، ليس في الإمكان التظاهر بخدمة لبنان وأمنه الوطني ومصالحه العليا من دون الاعتراف بأنّ كل سلاح غير شرعي، أكان فلسطينيا، كما كانت عليه الحال في الماضي، أو مذهبيا كما الحال الآن، إنّما يخدم كلّ ما من شأنه ضرب الاستقرار في البلد وتدمير مؤسساته. هل مطلوب تدمير الدولة اللبنانية أو ما بقي منها لا أكثر؟
لا يزال “حزب الله الذي يمتلك حسابات خاصة به يسعى إلى إجبار الدولة اللبنانية على التعايش مع سلاحه بحجة أنّه صار الآن يتصدّى لـ”داعش” وما شابه “داعش”، في حين أنّه شريك في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. مثل هذه المشاركة في إبادة الشعب السوري، لا يمكن إلّا أن تكون سقوطا في مستنقع آسن يعرّض البلد لكل أنواع المخاطر ويشرع أبوابه أمام كلّ أنواع الإرهاب.
بعيدا عن الشعارات والكلام الكبير عن “الخطر التكفيري”، وعن المواجهة مع إسرائيل، كلّ كلام عن تسوية في لبنان تصبّ في خدمة الدولة اللبنانية يظلّ كلاما لا ترجمة له على أرض الواقع، في غياب البحث في الموضع الجدّي الوحيد، أي السلاح غير الشرعي.
أيّ كلام لا يأخذ في الاعتبار أن لا تسوية حقيقية شاملة أو غير شاملة، كما دعا السيّد حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” عشية تفجير برج البراجنة، بوجود سلاح الحزب.. يظل كلاما جميلا فقط. ما الهدف من طرح نصرالله؟ هل يستطيع إقناع نفسه أوّلا أن لا فائدة من أيّ تسوية قبل نزع السلاح غير الشرعي الذي يصبّ في خدمة لعبة واضحة المعالم هي تعطيل الحياة السياسية، بما في ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إرضاء لإيران.
حصلت جريمة في برج البراجنة. العمل مدان بكلّ المقاييس ومن دون تردّد من أيّ نوع كان. هناك مواطنون لبنانيون تعرّضوا لعمل إرهابي في منطقة لبنانية يفترض أن تكون في حماية الدولة اللبنانية وأجهزتها. من الصعب الحؤول دون تكرار مثل هذه الجريمة في غياب القدرة على الذهاب إلى الجذور.
الذّهاب إلى الجذور يعني أوّل ما يعني امتلاك ما يكفي من الشجاعة لمعالجة قضية السلاح غير الشرعي. هذا السلاح في أساس كلّ مشاكل لبنان وفي أساس السقوط المستمرّ للدولة اللبنانية.
لا يزال لبنان يقاوم السلاح غير الشرعي منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. في الوقت الراهن، لا يقتصر الأمر على اقتناع “حزب الله” بأن الدولة اللبنانية لا يمكن أن تحميه أو أن تحمي أيّ مواطن لبناني في غياب احتكارها للسلاح. احتكار السلاح من حق الدولة، ولا وجود لدولة حقيقية لا تمتلك هذا الحق.
لا مفرّ من اقتناع الحزب بأنّ تورّطه في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، من منطلق مذهبي، لا يمكن إلّا أن يأتي بالويلات على لبنان واللبنانيين. من هنا البداية وصولا إلى الاعتراف بأنّ لا مجال الآن لتغيير النظام في لبنان وتعديل دستور الطائف. هذا ما أدركه الرئيس سعد الحريري، الذي نجح في إقناع قسم كبير من المسيحيين بأن الوقت وقت التسويات والتنازلات المتبادلة والبحث عن كيفية حماية البلد، سياسيا واقتصاديا، وليس وقت تحقيق انتصارات وهمية لا تحمي أيّ طائفة من الطوائف أو مذهب من المذاهب.
يبقى في نهاية المطاف هل يمتلك “حزب الله” حرية قراره كي يتحدّث أمينه العام عن تسوية شاملة تشمل السلاح غير الشرعي للحزب؟ هذا السؤال هو لبّ المشكلة القائمة. كلّ ما تبقّى دوران في الحلقة المغلقة التي يتغذّى منها الإرهاب السنّي من الإرهاب الشيعي، والإرهاب الشيعي من الإرهاب السنّي، فيما الدولة اللبنانية عاجزة حتّى عن لعب دور الحكم في مكان اسمه “الساحة اللبنانية” بديلا من الدولة اللبنانية.