بشار الأسد لا يزال عليه اكتشاف أنه لم يعد سوى ورقة روسية في خدمة سياسة دولة تبحث عن أوراق خارجية لتغطية مشاكلها الداخلية وأزماتها.
أخيرا اكتشف بشّار الأسد أنّ إيران ليست جمعية خيرية. لم يكتشف ذلك إلّا عندما طالبته بتسديد كلّ دولار ساعدت به نظامه، هو الذي كان يعتقد أن كلّ أموال العالم لا تكفي لمكافأته على ما فعله من أجل خدمة المشروع التوسّعي الإيراني، بما في ذلك تغطية الجرائم التي نفّذت عبر أدوات إيرانية معروفة، خصوصا في لبنان.
استخدمت إيران بشّار الأسد وعصرته بعدما اعتبرت أنه أفضل أداة لها من أجل استيعاب سوريا وتحويلها مستعمرة. كانت سوريا جسرا لدعم “حزب الله” الذي كان بشّار شديد الإعجاب به من منطلق أنه أقام “توازنا استراتيجيا مع إسرائيل”، على حساب لبنان واللبنانيين طبعا. لم يدرك في أيّ لحظة أن الحزب الذي كانت إيران، ولا تزال تدعمه من منطلق أنه تابع لها، مجرّد ميليشيا مذهبية تخدم مشروعا يستهدف تحويل لبنان محميّة واللبنانيين، بمن فيهم أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، شعبا فقيرا بائسا يبحث عن طريقة للتخلّص من النفايات أو مكانا يهاجر إليه بأيّ طريقة من الطرق.
لم يتعلّم الأسد الابن من خبرة والده شيئا. لم يعرف أنّ حافظ الأسد كان يعتقد أن في استطاعته استخدام إيران واستيعابها خدمة لنظامه عموما وللدور العلوي في سوريا بشكل خاص وامتداداته اللبنانية وسعيه إلى قيام حلف الأقلّيات.
كان الأسد الأب يحسن اللعب على التوازنات. لذلك عزّز العلاقة بين دمشق وطهران ووقف مع إيران في حربها مع العراق، لكنّه لم يقطع يوما العلاقة بالعرب الآخرين. كانت إيران بالنسبة إليه ورقة يبتز بها العرب. أما بشار الأسد فكان بالنسبة إلى إيران ورقة تبتز بها العرب..
لم تنفع حملات التشييع التي قامت بها طهران في صفوف العلويين الذين توصلوا في نهاية المطاف إلى أن بشار الأسد ليس حاميا لهم وأن الطرف الوحيد الذي يحميهم هو الطرف الروسي
قبل نحو سنة تقريبا، بدأ بشّار الأسد يستفيق إلى خطورة إيران، خصوصا بعدما بدأت تطلب ضمانات محدّدة، بشكل عقارات في سوريا، من أجل الاستمرار في توفير المساعدات المطلوبة.
في بداية الثورة السورية، في آذار ـ مارس من العام 2011، أي قبل ما يزيد على أربع سنوات ونصف سنة، كان الدعم الإيراني لنظام الأسد دعما غير محدود ومن دون شروط. بدأ يتبيّن لإيران مع مرور الوقت أنّ الثورة السورية ثورة حقيقية وأنّ الشرخ المذهبي أعمق بكثير مما يعتقد. عندئذ بدأت تعيد حساباتها، خصوصا إثر اكتشافها أنّ لا حدود لمطالب النظام السوري الذي يحتاج أول ما يحتاج إلى كمّيات كبيرة من الأسلحة والمقاتلين… والأموال.
لعلّ أكثر ما جعل إيران تعيد حساباتها الحقائق القائمة على الأرض. في مقدّم هذه الحقائق أنّ الحرب السورية حرب طويلة وأنّ بشّار ليس قادرا على خوضها، خصوصا أنّها حرب على الشعب السوري الذي يقف ضدّه بأكثريته الساحقة. الحقيقة الثانية أن سوريا ذات الأكثرية السنّية لم تعد تتحمّل النظام العلوّي الذي سخّر البلد لخدمة مصالحه الضيّقة طوال ما يزيد على خمسة وأربعين عاما.
الحقيقة الثالثة والأهمّ أن إيران دولة من دول العالم الثالث لا تستطيع تمويل حروب مكلفة من نوع الحرب السورية إلى ما لا نهاية. عانت إيران من هبوط أسعار النفط والغاز. تبيّن لها أنّ ليس أمامها سوى التوصّل إلى اتفاق في شأن ملفّها النووي.. من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
اعترفت إيران بتوقيعها الاتفاق أنّها ليست سوى دولة من العالم الثالث، نصف شعبها تحت خط الفقر، لا أكثر ولا أقلّ. لا تستطيع إيران معالجة أزماتها الداخلية المستعصية، حتّى لو سطت على قسم من ثروات العراق فكيف تستطيع تمويل الحرب الطويلة الخاسرة التي يشنّها النظام السوري على شعبه؟
كان على إيران التراجع عن مشروعها السوري والاكتفاء بمشروع ذي طابع مذهبي يربط الريف الدمشقي وقسم من سوريا بالدويلة التي أقامها “حزب الله” في لبنان، في سهل البقاع تحديدا.
الحقيقة الرابعة أنّ العلويين يفضّلون الروس على الإيرانيين. لم تنفع حملات التشييع التي قامت بها طهران في صفوف العلويين الذين توصّلوا في نهاية المطاف إلى أن بشّار الأسد ليس حاميا لهم وأن الطرف الوحيد الذي يحميهم هو الطرف الروسي.
الأسد الأب يحسن اللعب على التوازنات. لذلك عزز العلاقة بين دمشق وطهران، لكنه لم يقطع يوما العلاقة بالعرب الآخرين. كانت إيران بالنسبة إليه ورقة يبتز بها العرب. أما بشار الأسد فكان بالنسبة إلى إيران ورقة تبتز بها العرب
كانت نقطة التحوّل في موقف الأسد الابن من إيران مطالبتها بضمانات في مقابل أيّ مساعدات جديدة. أرادت إيران الاستيلاء على أراض سورية. هيّأت لتسجيل هذه العقارات. وجدت الأسماء العربية اللازمة لتغطية هذه العملية التي أرادت عبرها التعويض عن كلّ ما كلفّتها الحرب السورية في السنوات الأربع الأخيرة.
كلّ هذه العوامل، التي يمكن وصفها بحقائق، جعلت بشّار يعيد حساباته أيضا، على غرار إعادة إيران لحساباتها. بات عليه أن يقول للعلويين ولمسيحيي اللاذقية إنّ الحليف الوحيد الصادق “الذي يمكن الاتكال عليه” هو روسيا.
في الواقع أراد رئيس النظام السوري القول إن لديه أوراقا أخرى يلعبها، خصوصا في ظل التوتر الذي شهدته العلاقات بين ضباط الجيش السوري، الذين بقوا موالين له من جهة، والضباط الإيرانيين والقادة العسكريين لـ”حزب الله” من جهة أخرى. لا يمكن عزل إحراق اللواء رستم غزالي، رئيس شعبة الأمن السياسي، الذي قتل لاحقا في ظروف غامضة، لقصره في قرفا، عن هذا التوتر. تبيّن أن إحراق القصر كان لمنع عناصر “حزب الله” و”الحرس الثوري” من تحويله مركز قيادة لهم في تلك المنطقة القريبة من درعا.
هل تنفع الورقة الروسية بشّار الأسد؟ هل ينفع استدعاؤه إلى موسكو لترديد الدرس الذي تلقنّه حرفا حرفا في شيء؟
استهلكت إيران ورقة بشّار الأسد. يكفي أنها ورثت سوريا في لبنان وذلك بفضل غباء الرجل الذي قبل تغطية عملية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.
جاء دور روسيا الآن. لم يدرك الأسد الابن أنّه لا يصلح أن يكون أكثر من ورقة. كان والده يتلاعب بالآخرين. دخل إلى لبنان بموافقة أميركيةـ إسرائيلية من دون موافقة موسكو. توصّل قبل ذلك إلى فك الارتباط مع إسرائيل في الجولان عبر “العزيز” هنري كيسنجر وليس عبر أيّ طرف آخر. لم يتنبّه بشّار إلى أن إيران وروسيا على شبه وفاق في شأن سوريا وأنّ الجانبين وقّعا أخيرا اتفاقات في مجالات مختلفة بمليارات الدولارات..
هل يكون حظّ بشّار مع روسيا أفضل من حظّه مع إيران؟ في كلّ الأحوال، وبغض النظر عن النتائج التي أسفر عنها اجتماع فيينا بين وزراء الخارجية الأربعة (الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا)، هناك مرحلة جديدة بدأت في سوريا. مرحلة ما بعد بشّار الأسد الذي وجد أخيرا أن إيران ليست جمعية خيرية. لا يزال عليه اكتشاف أنه لم يعد سوى ورقة روسية في خدمة سياسة دولة تبحث عن أوراق خارجية لتغطية مشاكلها الداخلية وأزماتها التي لا تقل عمقا عن تلك التي تعاني منها إيران..