ءأي متابع للشأن العام في المملكة لا يجهل اسم الأمير محمد بن نايف منذ كان مساعدا لوزير الداخلية للشؤون الأمنية، فالأمير هو نجم الحرب على الإرهاب بشهادة الداخل والخارج، وهو أيضا من أدخل إصلاحات إدارية وتطويرية على وزارة الداخلية.
وبحكم أن أغلب الملفات السياسية في المملكة يُنظر لها بعين أمنية، فكانت وزارة الداخلية، عبر شخص الأمير، مسؤولة عن أغلبها، مما جعل اسم الأمير محل احتكاك وتداول بين مختلف التيارات المحلية.
من أجل ذلك، أتيح لي، من خلال متابعتي للشأن العام، وقربي من بعض رموزه، أن أكون على معرفة بما يجهله غيري عن الأمير، وأبدأ اليوم بالناشط السياسي والمستشار القانوني محمد سعيد طيب، وأهمية هذا الاختيار كبداية، تكمن في أن الطيب شخصية تنتمي إلى شريحة المستقلين إن لم تكن المناضلين، ولم تكن علاقته مع السلطة الحاكمة، خلال نصف قرن من تفاعله مع الشأن العام، على وئام دائم، مما يتيح للمتلقي اكتشاف جوانب مثيرة ولافتة في شخصية ولي العهد الجديد.
تعرف محمد سعيد طيب على الأمير محمد بن نايف في أوائل الثمانينات الميلادية، بحكم صداقة الأمير مع صديق طيب، الوزير فايز بدر.
كان (الطيب) قد نشر مقالة في مجلة “المجلة” اللندنية تحت عنوان “المثقفون المزيفون هم الأعداء الحقيقيون للحاكم والوطن” لم تنل رضا الملك فهد آنذاك.
تم التحقيق مع (الطيب)، لكن الملف لم يغلق، والوزير فايز بدر على علم بذلك. انتهز دعوته للأمير نايف (وزير الداخلية) وابنيه (سعود ومحمد) إلى منزله، كان (الطيب) في اجتماع عمل بجنيف مع الناشرين هشام ومحمد علي حافظ بصفته رئيسا لشركة (تهامة) للإعلان، تلقى (الطيب) من (بدر) دعوة للمشاركة في العشاء وطلب منه الحضور إلى المملكة فورا للالتقاء بالأمير نايف في منزله في اليوم التالي، وهذا ما كان.
في تلك الليلة كان اللقاء الأول بين الأمير محمد بن نايف وبين محمد سعيد طيب. وبعدها بسنوات، التقيا عرضا في الديوان الملكي قبل أيام من تعيين الأمير مساعدا لوزير الداخلية للشؤون الأمنية. وحين طلبت مؤسسة عكاظ للصحافة انضمام الطيب عضوا فيها، تلقى اتصالا من الأمير، قبل اتصال وزير الإعلام، يبشره بموافقة المقام السامي على طلب عكاظ.
توثقت علاقة الطيب بالأمير بعد اعتقاله خلال عام 2004 بسبب بيان الملكية الدستورية. خلال الاعتقال تم إبلاغ الطيب بأن هناك تعليمات صارمة من الأمير بمعاملته بشكل محترم ولائق وكريم وتلبية كل طلباته. في الزنزانة فتح الطيب التلفاز ولم يجد قناة إخبارية معينة، أبلغ المأمور باحتجاجه فتم ضبطها له، ووفرت له كل الصحف، وسمح له باتصال يومي مع أسرته. بسبب توصية الأمير أتيح للطيب اختيار زنزانته، وهي نفس الزنزانة التي اعتقل فيها عام 1992 بسبب مقالته في مجلة روز اليوسف التي كانت بعنوان “امتحان ليس صعبا ولا عسيرا” تعليقا على الأنظمة الثلاثة التي أصدرها الملك فهد.
بعد الاعتقال منع الطيب من السفر خمس سنوات كاملة (2004–2009)، حينها توثقت صلته بالأمير، كان الطيب يلح في إنهاء موضوع منعه من السفر، وكان الأمير يجيب بتهذيب “أنا آسف، ما زلنا نسير في موضوع الحل”. خلال منع السفر تعددت اللقاءات بين الأمير والناشط السياسي، ذات مرة ناقشا باستفاضة ملف المواطنة، خصوصا موضوع الشيعة، أبدى الأمير تفهما كبيرا، وأكد على ضرورة التمسك بالوحدة الوطنية وإدانته لكل أشكال التمييز والعنصرية ورفضه الولاء لغير الوطن. ورحب الأمير بأي مكاتبات من الطيب موضوعها الشأن العام، وهذا ما زال قائما إلى اليوم.
كان الطيب متذمرا جدا من منع السفر، قال للأمير إبان اشتداد الحرب على الإرهاب “أنتم تناصحون المتطرفين، وتزوجونهم، وتسددون ديونهم، ونحن نريد المساواة معهم، أو أن نلقى، على الأقل، نصف معاملتهم”، وهنا رد الأمير “هذا ليس ثوبكم. هناك مخاطر محدقة بالوطن، عليكم أن تحذروا وتنتبهوا”.
طلب الأمير من الطيب أن يتعرف على ناشط آخر، المستشار القانوني عصام بصراوي، ذهب الطيب وبصراوي إلى الأمير، ثم ترك الطيب صديقه في حضرة الأمير منفردين، وحين خرجا كان بصراوي، لعارض صحي، مستندا على يد الأمير، حاول (الطيب) أن ينوب عن الأمير لكنه رفض، وأوصل بصراوي إلى باب السيارة وأشار للطيب، بيده، بما يدل على رضاه عن المقابلة.
تعرض بصراوي للاعتقال ثم المحاكمة، مع آخرين، بتهمة تمويل الإرهاب فيما يعرف بقضية جدة عام 2007. بعدها بفترة تم إطلاق سراح معظم المقبوض عليهم، ومنهم بصراوي، بعد التعهد بالتوقف عن مزاولة النشاط العام وإبلاغهم بأنهم ممنوعون من السفر. لكن قبل أشهر، فوجئ بصراوي بمرسول من الأمير قال له، لقد استكملنا كل التحريات بخصوصك، وتيقنا بأنه لا صلة لك بالإرهاب مطلقا، وأن هدفنا هو إحقاق الحق وإقامة العدل، لذلك تم إلغاء منع السفر الذي كان بحقك، وتم إبلاغ كافة الجهات المختصة بالقرار وبنتيجة التحريات. الغريب حقا بأن بصراوي لم يبذل أي محاولة في هذا الشأن.
عودة إلى الطيب، حين انتهى منعه من السفر عام 2009، تفضل الأمير شخصيا بالاتصال به ليبشره بالخبر. قال الطيب للأمير “أخشى لو سافرت غدا أن يبلغوني في المطار بعدم وصول التعليمات إليهم”، حينها أنهى الأمير المكالمة ثم عاود الاتصال بعد دقائق، طلب منه التوجه في اليوم التالي إلى مسؤول بعينه في الجوازات، ذهب الطيب، قال له الضابط “اضبط ساعتك، بعد خمس دقائق ستتسلم جواز سفرك”، لكن الطيب استلمه بعد دقيقتين ونصف.
بعد أحداث القطيف عام 2011، أصدر مثقفون سعوديون، منهم الطيب، بيانا أدان العنف وتمسك بالإصلاح مطالبا بلجنة عدلية لتقصي الحقائق. أثار البيان استياء السلطات السعودية وتم التحقيق مع الطيب ومنعه من السفر مع أنه لم يوقع ماديا على البيان، كان موضوع الاستياء عند وزارة الداخلية الظن بأن اللجنة المطالب بها دولية، حينها أوضح الطيب أن المقصود لجنة عدلية محلية يشكلها صاحب القرار، هدأ الاستياء لكن منع السفر ما زال قائما.
بعد وفاة الأمير نايف، ذهب الطيب معزيا، وحين خرج كان الأمير داخلا، وأمام الأمراء سلمان بن عبدالعزيز وتركي بن عبدالعزيز وسعود بن نايف، قال الأمير محمد بن نايف للطيب “أنت من تُعزّى في وفاة الفقيد” في إشارة إلى العلاقة القديمة بين وزير الداخلية الراحل والطيب التي وردت بالتفصيل في كتابي (السجين 32).
بعدها بأسابيع، أرسل الأمير أحد وكلاء وزارة الداخلية ليصطحب الطيب إلى سموه، قال الأمير للناشط “لقد انتهى منع سفرك، وتستطيع الذهاب الآن إلى المطار، وأرجوك لا تغضب الآباء”. وفي نفس اللقاء قال الأمير للطيب “إذا كنتم تطالبون بدولة المؤسسات فنحن نسعى إليها أيضا، القضية قضية وقت”.
يصف الطيب شخصية الأمير محمد بن نايف “شديد الذكاء، شديد اللياقة واللباقة، وذو دراية شاملة بشؤون الوطن. رجل دولة جاد ونشيط يعمل بلا كلل وبلا ملل”. وأبدى تفاؤله بتعيين الأمير وليا للعهد، متمنيا أن يدعم الأمير، وقد أصبح الرجل الثاني في الدولة، حقوق الإنسان والحريات العامة ومكافحة الفساد والشروع في الإصلاح السياسي والدستوري ومراجعة ملفات الناشطين الموقوفين الذين يثبت عدم صلتهم بالإرهاب أو بالعنف، إلى آخر القضايا التي نوه عنها في برقيته المفتوحة والموجهة للأمير غداة اختياره وليا للعهد.
وجدت من الواجب سرد هذا التاريخ، حتى يتعرف القاصي والداني على ملامح من شخصية ولي العهد الجديد، ولعلهم يتفاجأون بأنه في العالم العربي الذي تتوتر فيه العلاقة بين وزير الداخلية وبين الناشطين السياسيين، هناك علاقة يسودها الاحترام في المملكة مهما كانت مساحة الاختلاف.