توقيت القاهرة المحلي 20:21:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

غياب خير سفير لليمن

  مصر اليوم -

غياب خير سفير لليمن

خيرالله خيرالله

ربما كان من الأفضل لأحمد المتوكل أن يغادرنا الآن حتى لا يعيش ويرى ما يمر به اليمن هذه الأيام. الموت رحمه.
كان الصديق أحمد محمد المتوكل، الذي توفّاه الله عن عمر يناهز الخمسة وسبعين عاما ذلك الوجه اليمني المشرق الذي سيفتقده أصدقاؤه الكثر، خصوصا أولئك الذين عرفوه عن كثب. كان بالفعل خير سفير لليمن وكلّ ما له علاقة بهذا البلد العريق الذي يمرّ حاليا في أزمة عميقة يصعب تصوّر كيف سيخرج منها.
تعرّفت إلى أحمد المتوكل في بيروت عندما كان سفيرا للجمهورية العربية اليمنية، أي اليمن الشمالي قبل الوحدة. كان ذلك في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما كنت رئيسا للقسم العربي والدولي في صحيفة “النهار”. وجدت فيه سفيرا لليمن في لبنان وسفيرا للبنان في اليمن وحتّى خارج اليمن.

نمت صداقتنا وتعزّزت مع الوقت، خصوصا بعد زيارتي الأولى لصنعاء التي كانت بترتيب من الأستاذ أحمد، كما كنا نسمّيه. اختار السفير أحمد المتوكّل ثلاثة صحافيين لبنانيين للمشاركة في الاحتفال بإعادة بناء سدّ مأرب التاريخي. رافقت في تلك الرحلة الأستاذ طلال سلمان، صاحب جريدة “السفير” ورئيس تحريرها، والأستاذ حسن صبرا، صاحب “الشراع ورئيس تحريرها.

كان ذلك في أغسطس 1986. وكان الأستاذ أحمد السبب الذي أوقعني في غرام اليمن ومدينة صنعاء التي تعيش حاليا أيّاما صعبة ومحنة حقيقية. بالنسبة إليّ بقي أحمد المتوكّل يمثل صنعاء الجميلة. كان يمثّل الصداقات التي تبقى وتتحدّى الزمن.

كان سدّ مأرب، الذي أعاد بناءه على نفقته الخاصة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، عنوانا لبلد يبني نفسه ويتلمّس طريقه كي يكون في مصاف الدول التي تستطيع التقدّم على رغم كلّ الصعوبات القائمة، بما في ذلك قلّة الثروات البشرية والنموّ الكارثي للسكّان. أراد الشيخ زايد بنخوته العربية الأصيلة انتشال اليمن من الفقر والتخلّف وردم الهوة قدر المستطاع بينه وبين جيرانه. كانت إعادة سدّ مأرب بمثابة البداية.إلى ذلك، كان سدّ مأرب عنوانا للأمل باليمن حيث يحرث الإنسان الصخر ويبني منازل ومزارع وحقولا في أماكن لا يمكن للمرء أن يتخيّل أنّ في استطاعة اليمني الوصول إليها.

بفضل أحمد المتوكّل تعرّفت على حقيقة اليمن واليمنيين وعلى الحياة في صنعاء. صار اليمن في دمي، ذلك أنّ أحمد المتوكّل عرّفني على بعض الشخصيات اليمنية التي لا يمكن إلّا الإعجاب بها والتعلّم منها. كما عرّفني بأحلى ما في صنعاء. من بين الذين عرفّني إليهم شقيقه اللواء يحيى الذي لم يكن مجرّد سياسي يمني دمث، بل كان أكثر من ذلك بكثير، كونه كان يعرف اليمن وما يحيط باليمن عن ظهر قلب.

عبر أحمد المتوكّل تعرّفت على اليمن واليمنيين. فتح لي كلّ الأبواب. ولكن أكثر ما تعرّفت عليه، عبره، كان ذلك الإنسان الذي يعرف معنى الصداقة والوفاء.

طوال ثلاثين عاما، أي منذ العام 1985، بقي أحمد المتوكّل صديقا، هو وأفراد عائلته. كان يدخل بيتي في بيروت، قبل انتقالي إلى لندن، من دون استئذان. وكنت أدخل بيته في صنعاء من دون استئذان طبعا.

كان يسرّ إليّ بكل صغيرة وكبيرة. كان يخفي خلف مظهره البسيط وتواضعه الجمّ، هو الآتي من إحدى أكبر العائلات اليمنية، حسّا سياسيا مرهفا. غالبا ما ذكّرني بكلام كنت أقوله في جلسات القات في صنعاء. كان صريحا في تعليقاته وملاحظاته.

كان يقول لي في بعض الأحيان، من باب الصداقة والصراحة، إني بالغت ولم أكن موفّقا. وكان يقول لي في أحيان أخرى إنّي كنت مصيبا. توقّف طويلا في إحدى المرّات عند تعليق لي في جلسة قات. كان ذلك قبل أيّام من إعلان الوحدة اليمنية في مايو من العام 1990. تساءلت وقتذاك بصوت عال “ما الثمن الذي سيدفعه اليمن في مقابل الوحدة؟”. كان ردّ فعله أنّ سؤالي ليس بريئا، وراح يسألني عن خلفيات السؤال، فأجبته أنّ الوحدة لن تمرّ بسهولة وأن اليمن قد يكون مقبلا على أحداث كبيرة. أعاد تذكيري بالسؤال غبر مرّة، خصوصا بعد حرب صيف العام 1994. كان جوابي الدائم أنّه لم تكن لديّ معلومات بمقدار ما كان لديّ حدس.

في كلّ حياتي، لم أجد شخصا بوفاء أحمد المتوكل لأصدقائه وإخلاصه لهم. كانت طيبته المجبولة بالذكاء الفطري، من النوع الذي لا يتمتع به سوى الكبار الذين يمتلكون إرثا أخلاقيا وثقافيا وحضاريا ذا جذور عميقة. هذه الطيبة لم تمنعه من التفريق بين الأشخاص الذين كانوا يترددون على صنعاء ومعرفة خبايا ما يريدونه.

بغياب أحمد المتوكل، يغيب بالنسبة إليّ جزء من اليمن، البلد الذي قدّمني إليه ابن العائلة العريقة، الرجل الذي خدم بلده بكلّ إخلاص في كلّ موقع شغله، أكان ذلك

الموقع عسكريا أو مرتبطا بالعمل الديبلوماسي. ليس من عزاء لي يعوض ما خسرته في الرجل سوى معرفتي بالعائلة التي ربطتني بأفرادها علاقة عميقة صار عمرها يزيد على ربع قرن. لم أستطع يوما تذكّر المرحوم يحيى المتوكّل، إلّا وفي حلقي غصّة.

ربّما كان من الأفضل لأحمد المتوكل أن يغادرنا الآن حتّى لا يعيش ويرى ما يمرّ به اليمن هذه الأيّام. الموت رحمه. كان رجلا حساسا إلى حدّ كبير. كانت لديه دائما واقعية ليست بعدها واقعية. كان يقول الأشياء كما هي من دون لفّ أو دوران. كان يدرك تماما ماذا يعني العلم. بذل كلّ ما يستطيع كي يتعلّم أبناؤه، على رأسهم عبدالحميد. أتذكّر كم كانت فرحته كبيرة عندما ذهب ابنه عصام إلى الولايات المتحدة للالتحاق بإحدى جامعاتها.

جعلني أحمد المتوكّل أتعلّق باليمن. تعرّفت من خلاله إلى العائلة، إلى أبنائه وأبناء شقيقه على رأسهم محمد يحيى المتوكل وعلى الأقارب كالصديق حسين المتوكّل. أدخلني أحمد المتوكل إلى صنعاء حيث صار لديّ عشرات الأصدقاء، من طينة العميد علي الشاطر، رجل الوفاء والإخلاص والآدمية، الذي مهّد لأول حديث أجريته مع الرئيس، وقتذاك، علي عبدالله صالح في العام 1986.

مع رحيل أحمد المتوكّل، أتذكّر في كلّ وقت الرحلة الأولى إلى صنعاء. أتذكّر، بعد ذلك، أني كنت برفقته عندما كنت الصحافي العربي الوحيد الذي غطّى الاحتفال الذي جرى في عدن يوم الثاني والعشرين من مايو 1990، في مناسبة توقيع اتفاق الوحدة اليمنية.

كنت إلى جانبه في تلك الأيّام التي لا تنسى والتي رأيتفيها فصولا من التاريخ تتوالى بسرعة مذهلة. لم أتصوّر يوما أن اليمن يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه.. لم أتصوّر أن القدر سيرحم أحمد المتوكل، لكنّه سيحرمنا منه. رحمه القدر لأنّه لن يرى الفصول الأخيرة البشعة من المأساة اليمنية المستمرّة..

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غياب خير سفير لليمن غياب خير سفير لليمن



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon