لا يزال قاتل رابين يحكم إسرائيل، عبر بيبي نتنياهو الذي يراهن بدوره على العجز الأميركي، وعلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الإقليم.
لماذا اللفّ والدوران. إسرائيل لا تريد السلام. هناك فرصة سنحت بعد توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض قبل ثلاثة وعشرين عاما حين كانت المصافحة الأولى بين ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، واسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك.
يبدو أن هذه الفرصة لن تتكرّر، على الرغم من كلّ الثغرات التي كانت في اتفاق أوسلو. يصعب أن تتكرّر الفرصة في ظلّ التحولات التي يمرّ بها المجتمع الإسرائيلي، والتي يعتبر فوز بنيامين نتانياهو، أو بيبي، تتويجا لها.
فاز بيبي في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي كان محورها شخصه. كانت هذه الانتخابات التي فاجأت نتائجها كثيرين بمثابة استفتاء على السياسي الإسرائيلي الذي وضع نصب عينيه القضاء على عملية السلام مع الجانب الفلسطيني. لدى بيبي، الذي سيعود رئيسا للوزراء للمرّة الرابعة، مشروع واضح يقوم على ضم القدس الشرقية نهائيا ومتابعة الاستيطان بغية تكريس الاحتلال لأكبر قسم من الضفة الغربية التي استولت عليها إسرائيل في العام 1967.
لماذا صوّت الإسرائيليون لزعيم تكتل ليكود؟ هل زادت شعبيته، بما مكّنه من الحصول على ثلاثين مقعدا في الكنيست لأنّه ذهب إلى واشنطن لتحدي الرئيس باراك أوباما في عقر داره عن طريق إلقاء خطاب في الكونغرس تضمّن حملة على السياسة الأميركية تجاه إيران؟
هل زادت شعبيته لأنّه أعلن رفضه قيام دولة فلسطينية خلافا لما كان تعهدّ به في العام 2009، أي قبل أقلّ من ست سنوات؟
هل زادت شعبيته بعد تخويفه الإسرائيليين من اللائحة العربية التي أوصلت أربعة عشر عضوا إلى الكنيست؟ هل زادت شعبيته، فجأة، بعد اعتماده خطابا عنصريا بكلّ معنى الكلمة يقوم على ازدراء العرب عموما، والفلسطينيين على وجه التحديد؟
متى جمعنا كلّ هذه الأسئلة، لا يعود من مجال للحيرة. هناك بكلّ بساطة مجتمع إسرائيلي جديد مختلف يرفض السلام، أو على الأصحّ غير مهتمّ بالسلام. أولويات هذا المجتمع مختلفة عن الأولويات الفلسطينية، حيث قيادة شاخت ترفض تجديد نفسها بأيّ شكل.
ما جعل المجتمع الإسرائيلي يتغيّر ويدعم شخصية سطحية مثل بيبي نتنياهو هو سلسلة من التطورات جاءت بعد توقيع اتفاق أوسلو. ترافقت هذه التطوّرات مع هجرة الروس إلى إسرائيل منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وقد شكّل هؤلاء المهاجرون الجدد كتلة يمينية يعتبر السلام آخر همومها. جاء هؤلاء من بلدان ذات أنظمة توتاليتارية. لا يهمّهم ما إذا كان المرشّح في الانتخابات يكذب عليهم أم لا. كلّ ما يهمّهم هو الشعارات البراقة التي تستجيب لأهوائهم.
لا شأن لهذه الكتلة التي تضم مئات آلاف الإسرائيليين بالمنطقة التي تقع فيها إسرائيل، أي المنطقة العربية ولا بثقافتها. هناك روس هاجروا إلى إسرائيل وهم ليسوا حتّى يهودا. كلّ ما كانوا يريدونه هو الخروج من الاتحاد السوفيتي في مرحلة ما قبل انهياره في العام 1991.
لكنّ أهمّ تطوريْن جعلا المجتمع الإسرائيلي يتغيّر كلّيا، وهو مجتمع يعيش في ظلّ الخوف والشعور بعدم وجود شرعية أخرى غير شرعية القوّة، هما اغتيال اسحق رابين في العام 1995 والعمليات الانتحارية التي شجعتها قوى إقليمية من أجل إفشال عملية السلام.
كانت هذه القوى الإقليمية منزعجة أشدّ الانزعاج من اتفاق أوسلو الذي جسّد وجود القرار الفلسطيني المستقلّ.
كان القرار الفلسطيني المستقلّ، الذي وصفه الراحل حافظ الأسد بأنّه “بدعة”، الطريق الأقصر لوقف المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم.
من يحكم إسرائيل حاليا، عبر بيبي نتنياهو، هو قاتل اسحق رابين. اسم القاتل ييغال عمير ولا يزال في السجن منذ ارتكابه جريمته في الرابع من نوفمبر 1995. ليس سرّا أن ليا رابين، أرملة رئيس الوزراء الإسرائيلي، سارعت إلى اتهام بيبي بأنّه خلق “أجواء الكراهية” التي مهدّت لاغتيال زوجها و“حرّضت” على الجريمة.
بغياب رابين، لم تعد هناك أي شخصية إسرائيلية قادرة على اتخاذ قرارات تاريخية. في مرحلة ما قبل اغتيال رابين، كان الملك حسين، رحمه الله، بين الزعماء القلائل الذين فهموا معنى الاستعجال واستغلال الفرصة المتوافرة. ليس صدفة أن اتفاق السلام الأردني – الإسرائيلي، الذي ضمن للأردن حقوقه في الأرض والمياه، وُقّع في خريف العام 1994، قبل سنة من اغتيال رابين؟
ساهمت العمليات الانتحارية التي تولّتها “حماس” في إيصال بيبي إلى رئاسة الوزراء في ربيع العام 1996.
لم يستوعب شمعون بيريس الذي خلف رابين في موقع رئيس الوزراء تمهيدا لانتخابات عامة، أنّه كان عليه الدعوة فورا إلى هذه الانتخابات بدل التفرّج على لعبة تقوم على التصعيد المتبادل بين طرفين لا يريدان السلام، ولا أي شيء يمتّ له من قريب أو بعيد.
بين اغتيال ييغال عمير لرابين وموعد الانتخابات، مرّت ستة أشهر. كانت المدة كافية كي يتغيّر الجو في إسرائيل على نحو جذري. كان تفجير باصات في تل أبيب والقدس وفتح جبهة جنوب لبنان أكثر من كاف ليفوز بيبي في الانتخابات، ويباشر سلسلة من الخطوات صبّت كلها في تعطيل عملية السلام والانقلاب على أوسلو. المؤسف في الأمر أنّه كان هناك في الجانب الفلسطيني من يمارس اللعبة نفسها التي تشجّع المجتمع الإسرائيلي على الذهاب إلى التطرّف.
إلى الآن، لا يزال قاتل رابين يحكم إسرائيل، عبر بيبي نتنياهو الذي يراهن بدوره على العجز الأميركي، وعلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الإقليم.
شئنا أم أبينا، هناك حاليا ما هو أهمّ بكثير من القضية الفلسطينية، خصوصا في ظلّ انبعاث الغرائز المذهبية وما نشهده في سوريا، حيث نظام أقلّوي يذبح شعبه، والعراق واليمن وليبيا، وأخيرا تونس حيث دم السياح الذين قتلتهم “داعش” لم يجفّ بعد.
إلى متى سيظل قاتل رابين يحكم إسرائيل؟ الجواب أن الوضع القائم غير طبيعي. لا لشيء، سوى لأن لا ييغال عمير ولا بيبي نتنياهو يستطيع وقف حركة التاريخ. في النهاية، لا يستطيع أحد إلغاء الشعب الفلسطيني. هذا الشعب موجود على الخريطة السياسية للمنطقة.
صحيح أنّ هناك من يسعى دائما إلى المتاجرة به وبقضيته. لكنّ الصحيح أيضا أنّ لكلّ شيء نهاية، خصوصا أنّه ليس بعيدا اليوم الذي يعيد فيه الشعب الفلسطيني إنتاج قيادة أكثر شبابا، من الداخل، قادرة على أن تكون في مستوى الحدث، وأن تتصدّى لاستحقاقات الولاية الرابعة لبيبي نتنياهو… الذي سيواجه، من دون شكّ، صعوبات على الصعيد الدولي في ظلّ إصراره على إلغاء شعب من الوجود.