نزل بضع عشرات من أنصار “التيّار الوطني الحر” إلى شوارع بيروت قبل أيّام من أجل المطالبة بـ“حقوق المسيحيين”. كانت تظاهرة مضحكة-مبكية لأنصار النائب ميشال عون الذين اشتبكوا مع قوات الأمن والجيش في سياق تمثيلية فاشلة إلى حدّ كبير.
كان الهدف من التمثيلية، ذات المُخرج المعروف، جعل المسيحيين في موقع المظلوم الذي انتُهكت حقوقه، والذي يتعرّض للقمع على يد نظام لبناني شبيه بـ“داعش”. نسي المشاركون في التظاهرة، وكان بينهم نوّاب، أن ميشال عون ممثل في الحكومة وأنّه يرفض النزول إلى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية. هذا الرئيس اللبناني هو رئيس الدولة المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط، وحتّى في المنطقة الممتدة من موريتانيا في أفريقيا، إلى أندونيسيا في المحيط الأطلسي.
انتهت التمثيلية بمؤتمر صحافي في مقرّ إقامة ميشال عون في الرابية. في المؤتمر الصحافي، الذي غلب عليه الطابع الفكاهي، تهجّم “الجنرال” على جويس عقيقي، وهي مراسلة مرموقة لإحدى الفضائيات المهمّة (إم. تي. في) تجرّأت على طرح الأسئلة التي يفضل النائب المسيحي عدم سماعها. كشف ردّ فعل ميشال عون مدى ضيق صدر من يعتبر نفسه عريقا في السياسة والعلم العسكري، وأنّه على رأس أكبر كتلة مسيحية في مجلس النواب.
باستثناء هذا الفصل المسلّ في ذلك اليوم البائس الذي يحتار فيه المرء هل ميشال عون مهرّج برتبة جنرال… أم جنرال برتبة مهرّج، تكشّفت أمور كثيرة على الصعيد اللبناني.
ظهرت قبل كلّ شيء هزالة “التيّار الوطني الحرّ” الذي لم يستطع جمع سوى نحو ثلاثمئة أو أربعمئة مناصر أراد استخدامهم لإغلاق بيروت وتعطيل العمل الحكومي. ولكن في المقابل، أدّت التظاهرة غرضها. حقّق المخرج ما كان يبغيه. وأوّل ما كان يبغيه تعطيل الموسم السياحي في لبنان. ليس صدفة استفاقة ميشال عون على “حقوق المسيحيين” في بداية الصيف، وفي وقت كان اللبنانيون من أصحاب الفنادق والمطاعم والمرافق السياحية والعاملين في قطاع الخدمات يتوقّعون مجيء بعض العرب إلى البلد في مناسبة عيد الفطر الذي يحلّ قريبا.
هناك همّ دائم لدى ميشال عون. هذا الهمّ يتمثّل في تهجير أكبر عدد من المسيحيين من بلدهم من جهة والإساءة إلى كلّ عربي على استعداد لمساعدة لبنان واللبنانيين من جهة أخرى. من لديه أدنى شك في ذلك، يستطيع العودة إلى تاريخ الرجل منذ احتل قصر بعبدا ورفض الخروج منه في العام 1988، وصولا إلى خريف العام 1990. من الضروري التذكير بذلك في كلّ وقت، نظرا إلى ضعف ذاكرة اللبنانيين عموما. هناك عشرات آلاف المسيحيين الذين تسبب ميشال عون في تهجيرهم بفضل حربي “التحرير” و“الإلغاء” اللتين خاضهما، بمبادرة منه، في أثناء وجوده في القصر الرئاسي كرئيس لحكومة مؤقتة. كانت مهمّة هذه الحكومة، التي رفض المسلمون المشاركة فيها، تقتصر على المساعدة في انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في سبتمبر 1988.
خاض من يطالب الآن بحقوق المسيحيين كلّ الحروب التي تؤدي إلى تهجيرهم من لبنان. شارك حتّى في الاعتصام الذي دعا إليه “حزب الله” في العام 2007 وسط بيروت لتعطيل الحياة الاقتصادية في المدينة، استكمالا للعدوان الإسرائيلي صيف العام 2006. تسبّب ذلك بتهجير دفعة جديدة من المسيحيين من البلد.
لا يمكن الاكتفاء بالقول أن التمثيلية التي نفّذها “التيار” كانت فاشلة، بل فاشلة إلى درجة اضطر معها أحد نوابه، من محترفي الانتهازية بشكلها الرخيص والسمج، إلى توزيع صورة قديمة لتجمع بالسيارات للعونيين لا علاقة لها بما جرى في بيروت قبل أيّام. على العكس من ذلك، لابدّ من التفكير العميق في ما الذي يريده الفريق الذي يحرّك ميشال عون ويتلاعب به بالريموت كونترول.
تبيّن أن لعبة “حقوق المسيحيين” تخفي لعبة أخرى. هنا تأتي التمثيلية الحقيقية التي لا مكان فيها لأي مشهد فكاهي من النوع الذي أداه ميشال عون في مؤتمره الصحافي. من يحرّك ميشال عون في نهاية المطاف هو “حزب الله” الذي تظاهر بلعب دور الإطفائي في جلسة مجلس الوزراء. سجّل الحزب باستخدامه ميشال عون نقطة مهمّة، بالنسبة إليه. أظهر لبنان وكأن السنّة فيه يمنعون المسيحيين من الحصول على حقوقهم. حوّل الصراع في لبنان إلى صراع سنّي-مسيحي، في حين أنّه صراع لبناني مع سلاح “حزب الله” بصفة كونه سلاحا مذهبيا موجّها إلى صدور اللبنانيين، بمن في ذلك أبناء الطائفة الشيعية الكريمة التي تحوّلت في أكثريتها إلى رهينة لدى الحزب. سلاح “حزب الله” غير الشرعي في أساس كلّ ما يعاني منه لبنان. يكفي أنّ هذا السلاح، وليس أي شيء آخر، من يمنع بالقوّة انتخاب رئيس للجمهورية.
من يمنع اللبنانيين عموما، وليس المسيحيين فقط، من الحصول على حقوقهم هو سلاح “حزب الله” الذي يخدم المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. هذا السلاح يلعب دوره في قتل الشعب السوري. هذا الدور لا يمكن إلا أن يعود بضرر كبير على لبنان واللبنانيين في المدى الطويل، خصوصا في مرحلة ما بعد السقوط الحتمي للنظام الأقلّوي في سوريا. سيولّد هذا السلاح أحقادا لا يستطيع لبنان تحمّلها بأي شكل.
يسعى ميشال عون إلى استعادة حقوق المسيحيين بواسطة سلاح “حزب الله”، وهو سلاح مذهبي وميليشيوي، حل هذا السلاح، بكل بساطة، مكان السلاح الفلسطيني الذي لعب دوره في تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، بما في ذلك مؤسسة الجيش، قبل العام 1982.
تبقى ملاحظة أخيرة لابدّ من إيرادها على هامش تحرك “التيار” بحجة استعادة حقوق المسيحيين. كان موقف حزبي “الكتائب” و“القوات اللبنانية” موقفا حكيما. رفضا الدخول في لعبة “حزب الله” الذي كان يتمنّى تصدّي الحزبين لميشال عون وأنصاره وحصول صدام كي يزداد الوضع اللبناني تعقيدا.
كان مطلوبا تحرّك “الكتائب” و“القوات” كي يتمكن “حزب الله” من القول أنه نجح في إثارة صراع مسيحي-مسيحي. تعلم حزبا “الكتائب” و“القوات” من تجارب الماضي القريب. مشكلة ميشال عون أنّه لا يستطيع أن يتعلّم. دخل، بعد تجاوزه الثمانين من العمر، سنّ اليأس. هذا السنّ من أرذل السنين لدى الرجال وليس لدى النساء فقط.