بقلم: مصطفى فحص
عندما يطالب زعيم ميليشيا مسلحة ممثلة في البرلمان رئيس الوزراء بعدم التدخل في شؤون البلاد الداخلية، نكون أمام فاجعتين؛ الأولى أن هناك من يتعامل مع موقع رئيس الوزراء على أنه مدير تنفيذي لشركة خاصة، تم تعيينه من قبل أطراف تمتلك أسهماً في شركة تجارية، ولا يحق لمديرها إلا تنفيذ ما اتفقوا عليه. أما الفاجعة الثانية فعندما يطلب المساهمون الذين يريدون الاحتفاظ بمكاسبهم من المدير الجديد أن يعالج أزمة شركتهم من دون المساس بامتيازاتهم، فالواضح بعد 17 عاماً على سقوط نظام صدام حسين، أنه قد سقط معه مشروع الدولة. إن العلاقة ما بين الدولة ومن ورثها من على ظهر الدبابة الأميركية لم تزل شائكة ومتناقضة، فلا الأطراف الممسكة بالسلطة قادرة على استيعاب شروطها، ولا ثوبهم بحجم مقاسها.
أزمة العراق ما بعد 2003 أن من تولى أمره لم يفهم حتى الآن معنى سيادة الدولة، وهو أصلاً لا يريدها، لكنه حريص على مغانم السلطة. هذه المعادلة ليست محصورة فقط بالبيت السياسي الشيعي الذي تحول إلى بيت سياسي مسلح بعد أن نجحت طهران في عسكرة الهوية العقائدية الولائية في البيئة الشيعية العراقية لاستخدامها لاحقاً في وجه دعاة الهوية الشيعية الوطنية وأولوياتهم العراقية، كما أن البيوتات السياسية الأخرى؛ السنية والكردية، استفادت هي أيضاً من فكرة السلطة على حساب الدولة، ولم تقدم نموذجاً في تعاطيها مع مؤسسة الدولة يختلف كثيراً عمّا قدمته الشيعية السياسية في العراق، بل أصرت على تثبيت سياسات الفرز والمحاصصة، لكن في لعبة الأحجام؛ فإن المسؤولية تقع على الجهة الكبرى وصاحبة القرار الذي حكم باسم الأغلبية.
أصحاب القرار في البيت السياسي الشيعي لم يسلموا مصطفى الكاظمي المنصب التنفيذي الأول إلا بعد وصولهم إلى طريق مسدودة، وانفجار تبايناتهم التي كادت تصل إلى نزاع مسلح أقرب إلى حرب أهلية شيعية - شيعية، وفي تعاطيهم معه الآن يتحملون مسؤولية إفراغ هذا المنصب من صلاحياته، وجعله على قياس مصالحهم، فما قاله زعيم ميليشيا «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي في الرسالة التي وجهها إلى مصطفى الكاظمي بعد العملية الأمنية ضد ميليشيا «الكاتيوشا»، تُعبر بوضوح عن مطالب هذه الجماعات المسلحة، التي تحصر دور هذه الحكومة في إخراجهم من مآزقهم المتراكمة منذ 17 عاماً، وتهيئة الظروف لعدم خسارتهم السلطة عبر انتخابات نيابية مبكرة، تسيطر على نتائجها عبر قانون انتخابي غير عادل وصناديق اقتراع محمية بسلاحهم.
هذه القوى العاجزة تطالب الكاظمي بالذهاب إلى الدول الغربية والعربية من أجل مساعدة العراق اقتصادياً وصحياً، وباعتقادها أن هذه الدول جمعيات خيرية، أو صليب أحمر دولي؛ ستلبي مطالبها، لكنها مصرة على عرقلته أمنياً وسياسياً، وتلوح باستجواب حكومته بحسبانها مقصرة في معالجة مشكلات العراقيين، والأخطر تلويحها بأنها تملك البدائل وبإمكانها إطاحة الكاظمي. لكن في تلك اللحظة عليها أن تتحمل المسؤولية، بعد إطاحتها آخر فرصة ممكنة لإنقاذ ما تبقى من الدولة، فحالة الإنكار التي تعيشها هذه القوى يصفها أحد المراقبين العراقيين بقوله: «ما يجب أن يقال لهم إذا أرادوا الانقلاب هو: فليتفضلوا. عندها فعليهم أن يتحملوا مسؤولية إدارة بلد مفلس يتفشى فيه الوباء بسرعة، إضافة إلى عزلة دولية وعقوبات أميركية ستجعل سعر الدينار ينهار بشكل أسرع من سعر الليرة اللبنانية والتومان الإيراني، ومن بعدها عليهم أن يتعاملوا مع شارع ساخط لم يعد أمامه من خيار إلا السحل».
بين التهديد بإقالته وتلويحه بالاستقالة، يحتفظ مصطفى الكاظمي بخياره الأخير، فقرار مغادرته المنصب سيعيد أزمة الطبقة الحاكمة إلى مربعها الأول، وسيضعها في مواجهة مفتوحة مع انتفاضة «الأول من تشرين»، فسلاح الاستقالة الذكي سيصيب هدفه بالصميم، لكن ما بعد الكاظمي سيختلف جذرياً عما سبقه، وسيضع العراق؛ دولة وشعباً، أمام شبح الفوضى والفراغ، وعلى الأرجح أنه آخر شخصية مدنية تحكم العراق قبل أن يملأ الفراغ جِزَم سوداء وقبعات حُمر.