بقلم : مصطفى فحص
في اختبار الإرادات، رفعت طهران مستوى المواجهة بينها وبين واشنطن، وفرضت على إدارة الرئيس دونالد ترمب التي تستعد للدخول في السباق الانتخابي ضرورة التفكير بطرح خيارات استراتيجية مربكة لها، كانت مستبعدة من قائمة ردودها على الخطوات التصعيدية الإيرانية التي بلغت ذروتها الأمنية والاقتصادية منذ قرار واشنطن تصفير صادرات إيران النفطية، وذلك بعد الاعتداء الأخير على منشآت شركة «أرامكو» في مدينة (بقيق) السعودية؛ الأمر الذي تسبب في تعطيل مؤقت لنصف الإنتاج السعودي؛ ما أدَّى إلى تهديد إمدادات أسواق الطاقة العالمية وإلى ارتفاع بأسعار الطاقة.
ففي حرب المنشآت الجديدة التي تشنها طهران ضد المملكة العربية السعودية، تبدو أن إرادة التصعيد الإيرانية مستمرة في رهانها على احتمالات التردد الأميركي في الرد على هجماتها تجنباً لتصعيد قد يصل إلى حرب مفتوحة ستؤثر مباشرة على خيارات الناخب الأميركي وعلى مستقبل الاستقرار في منطقة تنتج 40 في المائة من احتياجات الأسواق العالمية من المشتقات النفطية.
ففي اعتداء (بقيق) تطلع طهران إلى تضييق خيارات الرئيس الأميركي المتمسك بمعادلة أن فرض عقوبات قاسية ستجبر طهران على الجلوس على طاولة المفاوضات من دون شروط، وهو ما تحاول طهران تجنبه عبر تمسكها بخيار الصبر الاستراتيجي بهدف إفشال معادلة ترمب «العقوبات والمفاوضات»، وتحويل الفشل إلى مادة داخلية أميركية يستخدمها خصوم ترمب من الديمقراطيين الذين يتهمونه بإضاعة اتفاق «الممكن» والفشل في التوصل إلى بديل «مقنع». في التوقيت الإيراني المختار بعناية، لا يُستبعَد تصعيد محدود لا يغير قواعد الاشتباك، خصوصاً بعدما تم إبعاد جون بولتون عن إدارة البيت الأبيض؛ ما أضعف حضور دعاة المواجهة في اتخاذ القرارات، كما أن الهجوم في حجمه وتوقيته هو ردة فعل إيرانية على فشل مفاوضات باريس، حيث فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ردم الهوة ما بين الطرفيين، بعدما أصرت إيران على تخفيف العقوبات قبل عقد لقاء ترمب - روحاني، في حين أصر الطرف الأميركي على رفض العرض الفرنسي بتقديم 15 مليار دولار لطهران خطاً ائتمانياً مقابل عودتها إلى تطبيق بنود الاتفاق النووي، فطهران التي لم تستطع تصدير أكثر من 180 ألف طن من النفط الخام خلال شهر أغسطس (آب)، تدخل مرحلة الاختناق الاقتصادي الذي بات يهدد مصير استقرارها الداخلي، ولم يعد مستبعداً أن تنفذ طهران مزيداً من الاعتداءات في المنطقة؛ وذلك لسببين، الأول هو استهداف الرياض استراتيجياً باعتبارها تقود المحور الذي يطالب بوضع حد لنفوذها، والآخر أن المنشآت السعودية تمثل مصالح اقتصادية عالمية، ومن خلال استهدافها ستدفع المجتمع الدولي إلى الحوار معها تحت ذريعة ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين؛ لذلك من المستبعد أن يتم التعامل مع الاعتداء على منشآت «أرامكو» أميركياً وإقليمياً كما جرى التعامل مع هجمات سابقة.
فمن المفترض أن هذه الوقائع الميدانية تفرض على واشنطن الذهاب إلى تطبيق إرادة الردع بوجه طهران، خصوصاً أن عدم التعامل مع هذه التهديدات من الممكن أن يؤدي إلى خسارة واشنطن هيبة الدولة العظمى، وخسارة ثقة حلفائها التقليديين في منطقة الخليج العربي، فالتراجع أمام التحديات التي تمارسها طهران في هذه المرحلة سيؤثر في المستقبل القريب على رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط لعقود طويلة، خصوصاً إذا استمرت واشنطن في الرهان على الخيارات الدبلوماسية وعدم الفصل ما بين سياسة المصالح المشتركة وبين لغة المكاسب.
هذا ما سيؤدي إلى انكفاء أميركي يدفع كثيراً من الطامحين إلى التخطيط لملء الفراغ الاستراتيجي في منطقة مليئة بالثروات والنزاعات، وهذا ما يدفع إلى التذكير بما نقله نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليام بيرنز الذي عمل سفيراً لبلاده في موسكو عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أحد الاجتماعات عندما وجَّه بوتين كلامه لبيرنز بعد انتقادات واشنطن لتوجهات موسكو في السياسة الخارجية «ليست مشكلتنا إذا كانت يدانا ضعيفتين، لكن نستخدمهما بشكل قوي بينما يداكما قويتان، لكنكم تستخدمونهما بشكل ضعيف».
بعد (بقيق) دخلت المنطقة والعالم مرحلة خلط أوراق كبيرة لا يمكن لواشنطن تجنب الانخراط فيها؛ فالمسافة ما بين المنشآت السعودية المستهدفة التي سوف تُستهدف وصناديق الاقتراع الأميركية اختصرتها صواريخ وطائرات موجهة أصبحت ناخبة في معركة باتت تدافع فيها الرياض عن المصالح العالمية.