بقلم: مصطفى فحص
يواجه زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر معضلة في المواءمة بين حركة احتجاجات شعبية تطالب بالسيادة الوطنية الكاملة وإصلاح شامل للعملية السياسية، وبين حرصه على الحفاظ على مكتسبات تياره السياسية والشعبية. ومع تمسك الانتفاضة بمطالبها، تتراجع فرص التيار في التماهي مع حركة إصلاحية بطبيعة ثورية ترفع شعارات القطيعة مع مرحلة ما بعد 2003.
تمكنت الانتفاضة من فرض شروطها على الطبقة السياسية التي فشلت في مهمتين؛ الأولى محاولة إخمادها، والثانية في أن تكون جزءاً منها، وقد أدَّت استدارة الصدر الأخيرة إلى قطيعة شبه كاملة مع «انتفاضة الأول من أكتوبر». وقد نجحت سريعاً في تعويض الزخم الشعبي بعد خروج جمهور الصدر من الساحات، وحولت قرار الانسحاب إلى أزمة داخل صفوف التيار، الذي يعاني صعوبة في تحديد خياراته بسبب خطوات ضبابية قام بها زعيمه في الفترة الأخيرة لا تنسجم مع الأدبيات التاريخية للحركة الصدرية وهويتها العقائدية، التي نشأت مع صعود نجم الراحل محمد باقر الصدر، وتبلورت كحالة شعبية جماهيرية على يد الراحل محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر.
يعدّ الصدر الثاني أحد أبرز الدعاة إلى تعريب المرجعية الدينية في النجف، فيما وريثه السياسي يكمل دراسته الحوزية في قُمّ على يد أستاذ عجمي، فالعلاقة ما بين الصدر والجمهور الشيعي تمرُّ بمرحلة من الارتياب منذ قراره رفع الغطاء عن الجنرال عبد الوهاب الساعدي، الذي يحظى بشرعية وطنية وشعبية تؤهله ليكون بديلاً للزعامات التقليدية الشيعية التي فشلت في مشروع بناء الدولة، كما أن موقفَ الصدر الملتبس من طرح اسم مدير المخابرات العراقية مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة فتح التساؤلات حول استعجاله في حرق الترشيح لصالح جهات خارجية، أما الأزمة المعنوية في علاقته مع أبناء تياره فهي في عدم تقبلهم مشهد جلوسه في مجلس المرشد الإيراني، في شكل يتناقض كلياً مع أعراف المراجع الدينية في النجف، الذين يجلسون بشكل متساوٍ مع من يزورهم أكان رئيساً أو درويشاً.
من الصعب أنَّ تتلاءم قرارات الصدر في احتضان تيارات ولائية، كرَّست عملها لصالح المشروع الإيراني مع قواعده الشعبية في ذروة صعود الوطنية العراقية ونضوج مفهوم الدولة في الوعي الجماعي الشيعي العراقي، مما يدفع إلى التشكيك في قدرة الصدر على الاستمرار في هذه الخيارات، خصوصاً قيادته لما باتت تعرف بـ«المقاومة الدولية» التي أطلقت من إيران، والتي تحتاج لقوة الصدر في هذه المرحلة لمواجهة الضغوط الأميركية عليها من جهة؛ ومن جهة ثانية في ضرب حركة احتجاجات تشكل تهديداً غير مسبوق لهيمنتها على العراق، وهي تحاول من خلال الحضور الشعبي الذي يمتلكه الصدر أن تعوض غياب الحاضنة الشعبية لفصائلها المسلحة، إلا أن الخطورة أن يقع الصدر في المحظور، وتؤدي الوقيعة بينه وبين الانتفاضة إلى حجة تستخدمها الفصائل في تبرير مزيد من العنف ضد الاعتصامات من أجل إنهائها، بعدما انزلق الطرفان؛ الصدر والمحتجون، إلى التراشق بالاتهامات بعد الكلام الأخير لصالح محمد العراقي المقرب من الصدر على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي وجه رسالة تهديد علنية للاحتجاجات قال فيها: «إن لم يعودوا؛ فسيكون لنا موقف آخر لمساندة القوات الأمنية البطلة، والتي لا بد لها من بسط الأمن لا للدفاع عن الفاسدين؛ بل من أجل مصالح الشعب ولأجل العراق وسلامته».
ولكن رغم حالة الانسداد في العلاقة بين الصدر وحركة الاحتجاجات، فإن الباحث في «المركز الفرنسي للبحوث العلمية» والخبير في الشؤون العراقية الدكتور هشام داود، يميل إلى التريث قبل الحكم نهائياً على الأزمة التي يمر بها «التيار الصدري»، ويرى أنه «لا قطيعة بعدُ تماماً بين الحركة الاحتجاجية العراقية والتيار الصدري. الاثنان يتقاسمان القاعدة المجتمعية ذاتها، ولكنهما يختلفان اليوم في المخارج السياسية، مهما كانت التركيبة الهرمية للحركة الصدرية، إلا أنها لا تستطيع القفز على الواقع الاجتماعي وتناقضاته، لذا لا يمكن منطقياً تحول التيار الصدري في فترة أسابيع من (الراعي الأبوي) للحركات الاحتجاجية في الفضاء الشيعي العراقي إلى نقيض إرثه السياسي هذا. لذا، نحن في مرحلة تدافع بين الاستقلالية العالية للحركة الاحتجاجية وتوجسها الشديد من الأحزاب من جهة؛ ورغبة التيار الصدري في لعب الدور القيادي في التغيير القادم، من جهة أخرى».
كانت شريحة كبيرة من العراقيين ترى في الصدر ليس فقط ممثلها السياسي والمجتمعي؛ بل وحتى الخلاصي. اليوم تخطت الاحتجاجات الشعبية صور الأشخاص وتأثيرهم، لذلك فإن الحالة الصدرية تمرُّ بأزمة تكاد تكون الأصعب والأكثر ألماً في تاريخها، وستؤثر حتماً على حجم موقعها في الحياة السياسية.