بقلم: مصطفى فحص
في بغداد قوى سياسية مرتبكة تعتمد المجاهرة بمواقفها، تقابلها إدارة حكومية شبه صامتة تحسب خطواتها، فقد أدى صمود وصمت إدارة الكاظمي إلى تضييق خيارات القوى السياسية الشيعية العراقية المسلحة، وزاد من تخبطها في مواجهة صعوبتين؛ الأولى تراجع قدرتها على إعادة تعويم خطابها. أما الثانية فهي كيفية مواجهة إدارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. لذلك تعترف بعض هذه القوى في كواليسها ومن دون مكابرة بأنها لا تملك بديلاً مقنعاً عن الكاظمي، كما أنها لا تملك أيضاً القدرة على إسقاطه، فبعض هذه القوى العقائدية تربط بين الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، واستمرار الكاظمي في منصبه حتى الانتخابات البرلمانية المقبلة في 6 يونيو (حزيران) المقبل، لذلك قررت التعايش معه ولو لفترة طويلة حتى إذا أُجلت الانتخابات، فهي تتجنب الذهاب إلى المجهول.
بعض هذه القوى باتت مرغمة على تقبل التعايش مع الكاظمي، وتعترف بأنه الفرصة الأخيرة أمام ما تصفه بـ«الحكم الشيعي للعراق»، للخروج من مأزقه بأقل الخسائر ولو على حساب مصالحها. من جهته، يراعي الكاظمي أيضاً هذه الحساسيات، لكنه يستند في إدارته إلى فضاء عام تبلور منذ 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فهو قد وصل إلى منصبه نتيجة تسوية فرضتها «انتفاضة تشرين»، التي فرضت على القوى السياسية التنازل عن السلطة التنفيذية، وفسحت المجال أمام التيارات العلمانية والقوى المدنية غير الطائفية في تكوين نفسها والاستعداد لملء الفراغ السياسي والاجتماعي الذي خلّفه فشل أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في حكم العراق ما بعد 2003.
الكاظمي الذي وصل إلى السلطة من دون عصبية حزبية أو عقائدية أو عشائرية، يرفض الاستسلام، وهو يواجه منظومة متنفذة في جميع مفاصل الدولة، بنت نظام مصالح معقداً يحتاج إلى سنوات لتفكيكه أو السيطرة عليه، فكلما رفض الكاظمي الرضوخ لشروط الطبقة السياسية تزداد معاناته ومعاناة العراقيين الحياتية، وآخر الأمثلة توقف مضخات المياه في العاصمة عن العمل فجأة، وما سبقه من مماطلة تشريعية بخصوص الاقتراض لتأمين رواتب الدولة نتيجة خزينة فارغة ورثها الكاظمي عن حكومة سابقة وطبقة سياسية مالية فاشلة.
الفجوة بين الكاظمي وخصومه تتسع كلما تعزز حضور العراق الخارجي وتحسنت علاقته مع عمقه العربي، لذلك تلجأ هذه الطبقة إلى محاصرته داخلياً، فالهجوم المضاد على حكومته يروّج لافتراءات بشأن مشروع «طريق الشام الجديد» الذي يربط بين بغداد والقاهرة، ويروج أنه أحد مشاريع التطبيع الاقتصادي مع الكيان الإسرائيلي، وأن الهدف من الاتفاقيات النفطية مع القاهرة تسهيل بيع النفط العراقي إلى تل أبيب... أما المضحك المبكي، فكان الهجوم المنظم من أطراف معروفة بارتباطاتها الخارجية على مشاريع الاستثمارات السعودية في العراق واعتبارها خطة استعمارية!
في البادية العراقية الممتدة ضمن مثلث الأنبار - المثنى - النجف، وهي منطقة شبه صحراوية لم تستثمر منذ إعلان دولة العراق الحديث سنة 1921، ومعروفة بخصوبتها وغناها بالمياه الجوفية، عرضت الرياض على بغداد استصلاح نحو مليون هكتار واستثمارها في قطاعي الزراعة وتربية الدواجن، ما يؤمن فرص عمل لنحو 60 ألف عراقي، ويحوّل هذه المنطقة إلى سلة غذاء عالمية تستفيد منها أغلب الدول المجاورة، وتوفر للعراق احتياجاته الزراعية والحيوانية كافة، وتصدير الفائض من الإنتاج إلى الأسواق الخارجية، فهذا المشروع العملاق سيوفر على الخزينة استيراد 75 في المائة من احتياجات العراق الغذائية و90 في المائة من البضائع الأخرى التي يستورد أغلبها من إيران وتركيا.
المعترضون على العرض السعودي لا يخفون قلقهم الجيوسياسي منه، فنجاحه يؤدي إلى تحجيم دورهم، ويقدم نموذجاً مختلفاً عمّا قدمته بعض الدول التي ادّعت حرصها على العراق، وسينقل العلاقة بين الرياض وبغداد إلى مستوى اقتصادي متين، يصحح الخلل السياسي في علاقتهما في الـ17 سنة الماضية، ويقدم للعراق عرض شراكة استراتيجية مبنية على احترام المصالح المشتركة بعيداً عن لغة المحاور والهيمنة.