بقلم : مصطفى فحص
أعطتِ المرجعية الدينية الشيعية في النجف غطاءً مشروطاً لحركة الاحتجاجات الشعبية العراقية «انتفاضة الأول من أكتوبر»، بالمحافظة على سلميتها، واحترام القانون والمؤسسات، ودعوة نشطائها إلى حماية انتفاضتهم من اختراقات محلية وخارجية قد تستغلهم بهدف تصفية حسابات سياسية محلية، ومنع تحويلها إلى أداة تستخدم في نزاعات إقليمية، وذلك نتيجة حرصها على عدم مصادرتها من قبل قوى سياسية وعسكرية منظمة لها ارتباطات خارجية تعمل على استغلال هذه الانتفاضة من أجل إعادة فرض نفوذها عبر آليات حزبية ورسمية، مستفيدة من تغلغلها داخل مؤسسات الدولة، الأمر الذي أعطاها قدرة على تعطيل بدائل واقعية تخرج العراق من واقعه الحالي، فموقف المرجعية من المظاهرات تطور تدريجياً إلى أن وصل لمرحلة الانحياز لمطالب المعتصمين في ساحة التحرير، وبرز ذلك في مواقفها الأخيرة التي حملت توصيات رسمت من خلالها - أي المرجعية - خريطة طريق للخروج من الأزمة، توصيات طالبت المنظومة الحاكمة منذ 2003 بالاستجابة لمطالب الانتفاضة المشروعة بعد نجاحها في بلورة موقفها السياسي، الذي يمتلك شرعية شعبية باتت قادرة على فرض شروطها.
وفي هذا الصدد، ومن موقعه الأكاديمي، وبوصفه خبيراً في شؤون المرجعية، يقول الدكتور هشام داود، في تعليقه على كلام آية الله السيستاني الأخير، إن التقدير الاستراتيجي الأهم الذي نفهمه من خطاب المرجعية، أنها «تلمس اليوم استقلالية نسبية للحركات الاجتماعية، وتحررها من البنى الدينية - السياسية المهيمنة، وبالتالي لا سلطان كلي عليها، حتى من قبل المرجعية ذاتها. وعليه، السيد السيستاني أمام سؤال حاسم: ما العمل إذا كانت المظاهرات مستمرة من دونه، ولكنها يمكن أن تصبح حاسمة معه؟ يبدو أن المرجعية اختارت أن تتجه إلى المتظاهرين، وتدافع عن مطالبهم المشروعة شرط احترام القانون والمؤسسات». لذلك فإن موقف المرجعية المتقدم من الانتفاضة يمثل للمحتجين عامل مساعدة إضافياً في التسريع بتحقيق مطالبهم، خصوصاً أن انحيازها، ولو المشروط لهم في ساحة التحرير، يزيد من الفجوة ما بينها وبين المقيمين في المنطقة الخضراء؛ خصوصاً أن المرجعية في فهمها لديناميكية المتظاهرين، وربطها بتحولات اجتماعية وثقافية وسياسية، والحاجة لعملية إصلاح حقيقية وجدية تكون قد ردَّت على اتهامات بعض الأطراف التي تعتبر أن تبني المرجعية للعملية السياسية منذ 2003 أمَّن غطاءً شرعياً للطبقة السياسية، رغم توضيح المرجعية الدائم أن موقفها كان ولم يزل حتى الآن منع حدوث فراغ سياسي، والإصرار على التداول السلمي للسلطة، وهي الآن على قناعة تامة بمطالب الانتفاضة بتغيير الحكومة، وفي اعتماد قانون انتخابات جديد يحرر السلطة التشريعية من هيمنة السلاح وسطوة الأحزاب الدينية، وهذا يرتبط تلقائياً بضرورة تطهير الهيئات المستقلة للانتخابات من العناصر الحزبية، وبإشراف أممي لضمان نزاهتها.
في بداية الانتفاضة، ظهر موقف المرجعية، وكأنها تحاول كمش العصا من الوسط، ولكن سرعان ما تطور موقفها سياسياً واجتماعياً، وانتقل سريعاً من تفهم لمطالب المحتجين إلى تبنيها، وإلى إدانة العنف المفرط الذي استخدم ضدهم، وتحميل الحكومة مسؤولية سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، ولكن الجانب غير التقليدي في موقفها من حركة الاحتجاجات برز في قرارها المواءمة ما بين طبيعتها الكلاسيكية، التي تلتزم الحذر الشديد من الانخراط المباشر بالشأن العام، وبين ضرورة الحفاظ على دورها الرعوي، وذلك عندما قامت بخطوة متقدمة في دعم حركة الاحتجاجات السلمية، وذلك عندما سمحت المرجعية لطلاب الحوزة الدينية (العلوم الدينية) بالمشاركة في المسيرات الاحتجاجية التي خرجت في مدينة النجف؛ حيث شارك العديد من الأساتذة البارزين في بعض الاعتصامات التي جرت في ساحات المدينة، وكان لافتاً حضور رئيس مؤسسة «دار العلم» جواد الخوئي، وهو حفيد زعيم الحوزة العلمية الشيعية في العالم الراحل آية الله الخوئي، كما أنها لم تعترض على قرار توقيف الدروس الدينية في حوزاتها تزامناً مع دخول الجامعات العراقية على خط الإضرابات العامة، وقد كان الحدث الأبرز أن نجلي المرجع الأعلى آية الله السيستاني، محمد رضا ومحمد باقر، قد أوقفا التدريس في الحوزة، التزاماً منهما بقرار وقف التدريس، كما وجهت العتبتان الدينيان في كربلاء (الحسينية والعباسية) صفعة ميدانية لسلطة «المنطقة الخضراء» التي قامت بالدعوة إلى مظاهرات عارمة في مدينة كربلاء، بعد مظاهرات سقط فيها عدد كبير من الضحايا على يد القوى الأمنية وميليشيات السلطة، إضافة إلى أن إدارة العتبات الدينية في كربلاء والنجف ملتزمة تقديم آلاف الوجبات الغذائية للمعتصمين في ساحات المدن، خصوصاً في التحرير.
بين «الخضراء» و«التحرير»، من الطبيعي أن تنحاز النجف إلى طبيعتها المشروطية، أي إلى الانتفاضة، كونها ذات طبيعة اجتماعية عراقية، محركها الأساسي طبقة شيعية محرومة تواجه طبقة سياسية شيعية فاسدة مصابة بعطب ذاتي.