توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة (١)

  مصر اليوم -

هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ١

زاهي حواس
بقلم - زاهي حواس

ما إن دارت رحى الحرب فى أوكرانيا، وبات العالم على مشارف حرب عالمية ثالثة تلقى بظلالها على مفردات الحياة اليومية لكل إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، حتى خرجت أبواق أتباع الإله ست، إله الشر عند الفراعنة، من الخرائب التى تؤويها تنعق فى كل اتجاه «لتُعكنن» وتُنغِّص علينا حياتنا ومعايشنا نحن المصريين، وكأننا وحدنا دون خلق الله مَن سيعانى توحش الأسعار وغلاء المعيشة. لقد وصلت البجاحة بهؤلاء إلى أنهم يريدون أن يقنعونا بأننا وحدنا فى مصر مَن سيعانى ويلات ما يحدث بعيدًا عنّا آلاف الأميال وكأننا نعاقَب على اختيارنا التخلص منهم وللأبد! ولذلك قررت ألّا أنضم إلى طابور المحللين السياسيين وغيرهم من الخبراء الاستراتيجيين والكتابة عن الحرب وتبعاتها من أمور يعرفها الجميع، حيث لا نحتاج إلى مَن يصرخ فى آذاننا ليل نهار بالأخبار والتحليلات الظلامية. وقررت فى المقابل أن آخذ معى القراء الأعزاء وأهرب بهم لمدة خمس دقائق إلى عالم الفراعنة والحديث عن موضوع مبهج للنفس لكى نُريح عقولنا وقلوبنا لبعض الوقت، وهذا ليس هروبًا من الواقع ولكنه ترويح للنفس وبعث للأمل.
ما من شك فى أن خفة ظل الشعب المصرى وحبه للدعابة والنكتة تُعد من الصفات المتأصلة فى هذا الشعب العريق، والتى ميّزته دومًا عن باقى شعوب العالم قديمًا وحديثًا. ولا أعرف سببًا مقنعًا لتجاهل العلماء بحث هذا الأمر ودراسته والخروج علينا بدراسات مستفيضة وممتعة عن هذه الصفة المتأصلة فى أعرق شعوب الأرض، وهو الشعب المصرى، الذى كان أول مَن يصنع النكتة ويخترع فن الكاريكاتير! وللأسف فإن الصورة النمطية عن الفراعنة، والتى تأثرت بأعمال هوليوود الساذجة وكتابات غير المتخصصين، لا تعكس من قريب أو بعيد روح المرح والفكاهة التى تمتع بها المصريون منذ وجودهم وإلى يومنا هذا. ولم يبخل علينا أجدادنا الفراعنة العظام فى مشاركتنا نكاتهم وخفة ظلهم فيما تركوه لنا من آثار تؤكد أنهم لم يعشقوا الفكاهة والمرح فقط، بل إنهم كانوا يؤمنون بأن السعادة والضحك والمرح أمور تُطيل عمر الإنسان وتُحسن من وظائف القلب وتقاوم الأمراض!.

ولقد أثبت العلم الحديث أن الفراعنة كانوا مُحِقّين فى إيمانهم هذا، وهناك الآن دراسات تؤكد أن المرح والسعادة يقويان الجهاز المناعى للإنسان، وأن الصحة النفسية لها تأثير مباشر على صحة الجسد وأعضائه. ولذلك فلم يكن من الغريب أن يمتهن البعض فى زمن الفراعنة مهنة «المهرج»، الذى إما يقوم بإلقاء النكات أو عمل فقرات بهلوانية لإسعاد جمهور المشاهدين، سواء فى الأسواق أو الميادين أو فى حفلات القصور والبيوت الغنية. وقد وُصف عمل هؤلاء بأنه «سخمخ إيب»، وترجمته حرفيًا «يشرِح القلب» بكسر الراء. وكان الأقزام فى مصر القديمة يتمتعون بمكانة خاصة فى قلوب المصريين، الذين اعتبروهم مصدرًا من مصادر السعادة والبهجة وليس التنمر.

ويُعتبر الملك بيبى الثانى من أوائل الملوك الذين وُصفوا بخفة الظل، وقد وصل إلى العرش وهو لا يزال طفلًا صغيرًا لم يبلغ السادسة من عمره؛ وكان هناك أوصياء على العرش يديرون شؤون البلاد نيابة عنه حتى يكبر ويشتد عوده. وحدث أن أرسل قائد الحملة المصرية القادمة من عمق إفريقيا تقريره الرسمى إلى القصر الملكى وهو فى الطريق إلى مصر مبحرًا على صفحة النهر، وورد ضمن التقرير وجود هدية خاصة للملك عبارة عن قزم. وحين وصل التقرير الرسمى إلى جلالة الملك بيبى الطفل وتمت قراءته فى حضرته، بينما هو غير عابئ وغير مهتم ومنشغل بألعابه، وبمجرد سماعه بوجود قزم سيصل إلى القصر كهدية له، تبدل حاله وابتهج وأمر بأن يقوم الكاتب الملكى بكتابة ما يُمليه عليه من أوامر إلى قائد الحملة بصورة عاجلة. بالفعل استعد الكاتب وقام بتجهيز البردية والأقلام والمحبرة حتى فوجئ بجلالة الملك الطفل يملى عليه الآتى: «علمت أنك أحضرت لجلالتى قزمًا وفرحت جدًا بهذا الخبر. وآمرك بأن تحافظ على هذا القزم، فأنا أريده أن يصل إلى القصر سليمًا! أطعمه جيدًا ووفر له كل الطعام والشراب، وفى الليل عندما ينام القزم آمرك أن تضع حراسًا على جانبى المركب حتى لا يتدحرج القزم وهو نائم فيسقط فى الماء! أريد أن يصل القزم سليمًا لكى ينشرح به صدرى».

خَلَت رسالة الملك من أى ذكر يتعلق بأى من أمور الحملة ونتائجها، وكان كل ما يهم جلالة الملك الطفل هو ألّا يسقط القزم فى الماء وهو نائم. ولعل هذه الروح الفكاهية لطفل برىء هى ما جعلت قائد الحملة يخلد الرسالة نقشًا على جدران مقبرته دليلًا على اعتزازه بها طيلة حياته.

ومن أجمل المقابر التى كشفت عنها بجوار أهرامات الجيزة مقبرة القزم بر نى عنخو، والتى لا تبعد كثيرًا عن هرم الملك خوفو بالجبّانة الغربية، وتعود إلى عصر الأسرة الخامسة. وبداخل المقبرة عثرت على تمثال بر نى عنخو، وهو أحد أجمل تماثيل الأفراد على الإطلاق، وكان لقب بر نى عنخو هو «الذى يسعد قلب الملك».

وفى زمن الفراعنة كانت البيوت الكبيرة والقصور تستقبل سيدات يقمن إما ببيع بضاعتهن لسيدات هذه البيوت الثرية (دلّالات) أو يقمن على خدمتهن بطرق شتى سواء بحياكة الملابس أو تجهيز زينتهن، فكان منهن الماشطات والخبيرات فى مجال الزينة. وكثيرًا ما انكشفت أسرار البيوت لهن، وبالطبع عملن على الاستفادة قدر المستطاع بعلاقتهن بسيدات هذه البيوت. وقد عبر عنخ شاشنق، أحد الأدباء الفراعنة الذين عُرفت عنهم خفة الظل، عن هذا الحال بقوله: «ليت كان لى أم تعمل ماشطة فى البيوت لكى تجلب لى الخير كله!». بالطبع هو يسخر من ظروف مجتمعية عاصرها وكان يريد تقييمها بطريقته الخاصة.

وتكشف رسائل «حقا نخت» إلى ابنه الأكبر مرسو عن أصالة الروح الفرعونية المرحة فى التعامل مع الأمور الخاصة المتعلقة بالأسرة، وتحمل مشاغبات الأبناء، فالرجل المسكين ينتمى الى الطبقة المتوسطة الغنية التى كانت تعيش فى طيبة (الأقصر الحالية) قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وقد رُزق بخمسة من الأبناء الذكور، وماتت زوجته بعد ولادة ابنه الأصغر المدلل سنفرو. واضطر «حقا نخت» إلى السفر من طيبة إلى منف فى الشمال لمتابعة بعض الأعمال وترك المنزل والأرض وصوامع الغلال فى عهدة الابن الأكبر مرسو، أما الماشية والحظيرة فعهد بها إلى الابن الثانى. وكان يتابع ابنه الأكبر مرسو بالرسائل التى وصل إلينا بعضها، والتى تُعتبر بمثابة كنز لا يُقدر بمال. وفى إحدى الرسائل كتب يقول لابنه: «اسمع! لو الأرض غرقت بالفيضان فأنت المسؤول أمامى، ولن ألوم أحدًا من الفلاحين إلا أنت، تابع شغل الأرض بنفسك وتدخل فى كل صغيرة وكبيرة. وسلِّم لى على أمى إيبى ألف مرة، بل ألف ألف مرة». ويبدو أن سنفرو المشاغب بعث برسالة إلى أبيه يشكو إليه مرسو، فبعث الأب برسالة إلى مرسو المسكين يقول فيها: «بلغنى أن سنفرو مش مبسوط! خلِّى بالك منه وعاوزك توفر له كل اللى يحتاجه! وأبلغه سلامى ألف مرة، بل ألف ألف مرة، وأرسله لى فى منف بعد أن تنتهى من حرث الأرض» لاحظوا معى أن الأب لم يخبر ابنه الأكبر مرسو بأمر رسائل الشكوى التى بعث بها سنفرو إليه! وفى رسالة أخرى كتب «حقا نخت» يقول: «.. إذا أحب سنفرو أن يعتنى بالماشية فاسمح له بذلك، فيبدو أنه لا يحب الجرى وراءك هنا وهناك فى حرث الأرض، وعليك أن توفر له كل حاجة يطلبها»، وهنا يتضح أن شكوى أخرى من قسوة العمل مع مرسو المسكين، وطلب العمل مع الأخ الآخر فى رعاية الماشية وصلت إلى «حقا نخت» من «آخر العنقود» سنفرو، وكما فعل الأب من قبل، فلم يخبر مرسو بشأن هذه الرسائل. وكان لـ«حقا نخت» ابن مشاكس يُدعى سا حتحور، قام هو وإحدى الخادمات وتُدعى سنن بمشاكسة خادمة الأب، الذى صب جام غضبه على مرسو المسكين وأرسل له يأمره بطرد الخادمة سنن من البيت وترضية خادمته، ولم يذكر أى شىء يخص سا حتحور، وأنهى خطابه الغاضب بقوله «قم بطرد الخادمة سنن على الفور وإياك أن تبقى اللعينة بمنزلى يومًا واحدًا! احرص أن يتردد عليك سا حتحور يوميًا واجعله تحت نظرك. ما الذى يمكن أن تفعله خادمتى المسكينة معكم وأنتم خمسة من الأبناء؟.. لاحظ أنها خادمتى ويجب معاملتها بالحسنى، وإلا كيف أعيش معكم فى بيت واحد وأنتم لا تحترمون خادمة أبيكم؟ وسلم لى على أمى إيبى ألف مرة، بل ألف ألف مرة».

والسؤال الآن: هل اختلفت هذه الروح المصرية التى يمتزج فيها الكفاح والعمل بحب الحياة والعيش بسعادة وهناء من زمن الفراعنة وإلى الآن؟! لقد وثّقت لنا جدران المقابر بعض حوار العمال والصناع والفنانين بعضهم إلى بعض وهم منهمكون بالعمل، والتى لا تخلو من ألوان المزاح، أو لنقل بالعامية الهزار، وبعضه مقبول والبعض الآخر ملىء بألوان السباب والشتائم المتبادلة على سبيل المزاح، الأمر الذى يشير إلى الطبقة الاجتماعية ومستوى الثقافة والتعليم لبعض هؤلاء، ومن الغريب أن ذات الروح لا تزال موجودة إلى اليوم بمجتمعنا المصرى، ومن ألوان السباب نعت بعضهم البعض «يا عبيط، أو يا أهبل»، وتمادت المناظر المصورة إلى تخليد نوع آخر من المزاح باستخدام العنف، مثل العراك بين الصيادين على المراكب باستخدام الشوم والمجاديف ومحاولتهم إسقاط بعضهم البعض فى الماء. وسنعرض بإذن الله فى مقالنا القادم عن لون آخر من خفة الدم الفرعونية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ١ هربًا من الحرب إلى خفة دم الفراعنة ١



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon