بقلم - زاهي حواس
نعم، عزيزى القارئ، ليس هناك خطأ فى عنوان المقال!، فأنا زاهى عباس حواس، ابن قرية العبيدية بمحافظة دمياط، أفضل من إسحاق نيوتن، ابن مقاطعة لينكولنشاير بإنجلترا، عالِم الفيزياء والرياضيات الشهير، والذى أثرى البشرية بنظرياته العلمية ومؤلفاته فى الفيزياء والرياضيات وعلوم الفلك والكيمياء وكذلك مؤلفاته الدينية. وأرجو، عزيزى القارئ، ألّا تتعجل وتتهمنى زورًا وبهتانًا بالغرور وجنون العظمة، وكل ما أطلبه هو أن تتمهل حتى أقص عليك القصة من بدايتها.
كان يومًا عاديًّا لا يُنبئ بأن شيئًا سيحدث فيه ويغير ما يليه من أيام، بل شهور فى حياتى!، فحسب جدول المواعيد المُعَد بكل عناية ودقة من قِبَل مديرة مكتبى، الدكتورة نشوى جابر: (لم تكن قد حصلت على درجة الدكتوراه بعد)؛ كان علىَّ أن أستيقظ فى الرابعة فجرًا، وأغادر المنزل فى الرابعة وعشرين دقيقة متوجهًا إلى الإسكندرية، وتحديدًا إلى موقع معبد تابوزيريس ماجنا، وذلك لزيارة حفائر البعثة المصرية الدومينيكانية، التى تعمل للكشف عن أسرار المعبد، وتبحث فى صحة أو خطأ نظرية وجود مقبرة الملكة الشهيرة كليوباترا وحبيبها مارك أنطونى بالمعبد. وصلت إلى موقع الحفائر فى تمام الساعة السابعة، وقمت بتفقد الموقع وأعمال الحفائر ومراجعة التقارير الأثرية مع مفتشى الآثار المسؤولين عن العمل. بعدها قمت بعمل حديث تليفزيونى مع أشهر قناة تليفزيونية يابانية جاءت خصيصًا إلى مصر لعمل لقاء معى عن أسرار كليوباترا.
كان من المفروض، حسب جدول المواعيد، أن أغادر الموقع فى تمام الثامنة والنصف عائدًا إلى القاهرة، واضطررت لإخبار المحاور اليابانى بأن الوقت المحدد له قد انتهى، وقبل أن يُجيبنى، كنت أقفز من مكانى، وأسير مسرعًا إلى السيارة التى ستُقلنى إلى القاهرة، وكان علىَّ أن أقفز من موضع بالمعبد إلى موضع آخر لعبور حفرة بجوار أحد الجدران، ولكن للأسف الشديد حدث فى تلك اللحظة أن سقط حجر كبير فوق رأسى، جعلنى أرى وميضًا متكررًا، وكأنه الفاصل بين عالمين، عالم الأحياء وعالم الأموات!، والغريب أن كل ما فعلته هو أننى صرخت صرخة واحدة، بينما تعالت صرخات كل مَن كان بالموقع، وسارع اليابانيون بإحضار ما معهم من إسعافات أولية. تحسّست موضع سقوط الحجر على رأسى، ونهضت مسرعًا تجاه السيارة، وكل ما يدور بذهنى سؤال واحد!: هل سأتمكن من اللحاق بباقى مواعيدى واجتماعاتى اليوم أم لا؟.
بالطبع، ستتعجب من ذلك، عزيزى القارئ!، لكن لو أنك تعرفنى فلن يُصيبك العجب، فأنا مريض بفوبيا المواعيد المضبوطة!، وهو مرض أعانيه منذ الصغر، فلا يمكن أن أتأخر يومًا عن موعد، فدائمًا أنا موجود فى الوقت المحدد بغض النظر عن حالة المرور أو الأحوال الجوية أو غيرهما من الأعذار!، وكثيرًا ما أوقعنى هذا المرض فى شر أعمالى، كما نقول!، والتى كان آخرها كسرًا فى كاحل القدم اليسرى وتركيب شريحة ومسامير، حيث كنت على موعد للعشاء مع بعض الأصدقاء بأحد فنادق الزمالك الشهيرة على نيل القاهرة، وكان الموعد المحدد هو السابعة مساء، ووصلت أنا فى السابعة إلا دقيقتين، وأردت أن أقطع المسافة من مدخل الفندق إلى المطعم فى تلك الدقيقتين لكى لا أُعتبر متأخرًا!، وللأسف، كانت الأمطار تهطل والأرض مُبْتلّة، وأنا أهرول، فوقعت الحادثة المؤسفة، ووجدتنى أطير فى الهواء وأقوم بعمل دورتين كاملتين كأحسن لاعب أكروبات محترف، لأسقط بعدها أرضًا بكل وزنى على قدمى اليسرى الملتوية أسفل منى!. قمت من الأرض وذهبت إلى المطعم، وكالعادة كنت أول الحاضرين من الشلّة. وبعد العشاء عدت إلى المنزل ونمت لأصحو، فأجد قدمى منتفخة كالبالونة، وبها سخونة شديدة تكفى لغلى الماء. واستكمالًا لمسلسل سوء التصرف فى مثل تلك المواقف!، قمت بارتداء ملابسى وخرجت مشيًا (أو قل عرجًا) على الأقدام إلى المستشفى المقابل لمنزلى بالمهندسين، والنهاية أخبرتكم بها من قبل.. وهى عملية جراحية وتركيب شريحة ومسامير، وشهران فى الجبس، على كرسى متحرك.
أعود بكم الآن إلى تابوزيريس ماجنا، حيث ركبت السيارة وأمرت السائق بالعودة بأقصى سرعة إلى القاهرة، وأجريت عددًا من الحوارات الإذاعية وأنا فى السيارة، كما أجبت عن أسئلة عدد من الصحفيين، وقمت بكتابة مقالى الأسبوعى للجريدة التى كنت كاتبًا بها فى ذلك الوقت. كل هذا وأنا أشعر بوخز فى عينى. وعندما وصلت إلى مدخل الجيزة، أتممت موعدى الثانى بتفقد المتحف المصرى الكبير وما وصلت إليه الإنشاءات فى مركز الترميم العالمى بالمتحف. بعدها عدت إلى مكتبى بمركز تسجيل الآثار بالزمالك، وبدّلت ملابسى، واستقبلت الزائرين من علماء الآثار وسفراء وقناصل الدول الأجنبية ومديرى المتاحف العالمية والمصرية. وفى الثالثة والنصف عصرًا، ذهبت لمقابلة الوزير، الفنان فاروق حسنى، فى مكتبه بمبنى وزارة الثقافة فى شارع شجرة الدر بالزمالك.
وبعد الاجتماع مع الفنان فاروق حسنى، توجهت إلى مدينة الإنتاج الإعلامى، حيث كان علىَّ الوفاء بموعد مع إحدى القنوات التليفزيونية للحديث عن المتاحف الجديدة وتطوير المناطق الأثرية. كل ذلك والوخز يزداد فى عينى اليسرى، وأنا- لسبب لا أعلمه إلى الآن- لم أربط بين سقوط الحجر فوق رأسى وبين ما أشعر به من ألم فى عينى!، ولسبب أيضًا لا أعلمه، كنت أظن أن عينى (مطروفة)، كما نقول بلغتنا العامية، بل كنت أعتقد أن كل ما أحتاج إليه هو شخص ينفخ لى فى عينى، وينتهى الأمر!، كما كانت أمى، رحمها الله، تفعل معنا ونحن صغار. المهم أننى أخبرت زوجتى عندما عدت إلى المنزل، والحمد لله أننى تذكرت أن أخبرها بما حدث معى فى الإسكندرية!، فوجدتها تصر على الذهاب إلى الطبيب. وفى المستشفى، وبعد الفحوصات والكشف، وأنا مازلت مؤمنًا بأن عينى مطروفة، وأحتاج إلى مَن ينفخ لى فيها، صدمنى الطبيب بأن هناك ثقبًا فى عينى اليسرى أحدثه الحجر الذى هوى على أم رأسى!، وكانت الصدمة الثانية أنه لابد من إجراء عملية فورًا، والصدمة الثالثة هى رفض الأطباء إجراءها فى مصر.
عشت بعد ذلك أسبوعًا دراميًّا، لم أتخلف خلاله يومًا عن العمل والقيام بالتزاماتى ومواعيدى، حتى فوجئت باتصال تليفونى- لم ولن أنساه- من الرئيس الراحل حسنى مبارك يسألنى أن أقص عليه ما حدث لى فى الإسكندرية، وكيف سقط الحجر فوق رأسى؟، وما قاله لى الأطباء؟. بعدها أخبرنى أنه قد أمر بعلاجى بالخارج على نفقة الدولة. والحقيقة أن هذا الموقف الإنسانى النبيل من الرئيس مبارك، رحمه الله، قد أثر فىَّ بشدة، ورفع من معنوياتى، لدرجة أننى قمت بعدها برفع سماعة التليفون والاتصال بطبيب العيون المعالج لى لأسأله: «يا دكتور!، لآخر مرة بسألك: انت متأكد إن عينى الشمال بها ثقب وليست مطروفة؟!». واسمح لى، عزيزى القارئ، بحجب ما قاله الطبيب ردًّا على سؤالى الساذج.
ذهبت إلى أمريكا، وتم استقبالى فى أحد مراكز جراحة العيون، وبسرعة تم إعدادى لإجراء العملية الجراحية، وعندما أفقت من تأثير «البنج»، وجدتنى مستلقيًا على بطنى أنظر من خلال فتحة رأس بالسرير إلى أرضية الغرفة وظهرى للسقف. صرخت فى الممرضة، التى لا أرى منها سوى حذائها، عن سبب هذا الوضع المزرى الذى أنا فيه، فاستدعت الطبيب الذى أخبرنى أنه يجب علىَّ أن أظل هكذا لمدة أربع وعشرين ساعة!، كانت هى الأسوأ على الإطلاق. ظللت مُغتمًّا وحزينًا لأننى تعطّلت عن أعمالى وحفائرى وكتاباتى. وللأسف الشديد، بعد العملية بيومين، أخبرنى الطبيب بأن الثقب لا يزال موجودًا، وأنه يجب إجراء عملية ثانية. وبدلًا من أن أناقشه فى الأمر، طلبت منهم الاتصال بمديرة مكتبى، الدكتورة نشوى جابر، لكى أطلب منها إعادة جدولة المواعيد والمقابلات والاجتماعات. وعندما أخبرتها بالأمر وجدتها تصرخ فى سماعة الهاتف، قائلة: «كفاية بقى.. حرام عليك!، ممكن تنسى المواعيد والمقابلات والشغل، وتركز شوية فى العملية واللى انت فيه؟!».
فى المستشفى أُصبت بحالة ملل وكآبة لم أمر بها من قبل؛ حيث الإحساس بعدم القدرة على فعل شىء مؤلم جدًّا، وكانت الممرضات يشعرن بذلك، وحاولن كثيرًا التسرية عنى بحديثهن عن حبهن لمصر وآثارها. وبعد إجراء العملية الثانية، جلست بجانب سريرى إحداهن، بينما أنا منكفئ على بطنى فى الوضع السخيف إياه، ووجدتها تقول لى: «دكتور حواس، هل تعلم أننا بالمستشفى نتسابق لخدمتك والحديث معك؟»، لم أنطق سوى بكلمة واحدة: «أشكركِ!». أحَسّت الممرضة بأننى مكتئب، فقالت لى: «وهل تعلم أنك الآن قد صرت أفضل من عالِم الفيزياء إسحاق نيوتن؟»، لفتت انتباهى عبارتها، فقلت لها: «ماذا؟، إسحاق نيوتن؟، كيف؟»، فأجابت قائلة: «لقد سقطت فوق رأسه تفاحة، وهو جالس مسترخٍ أسفل شجرة؛ فاكتشف قانون الجاذبية، بينما أنت سقط فوق رأسك حجر، وأنت تعمل وتبحث وتكشف عن أسرار الفراعنة، فاكتشفتَ ثقبًا فى عينك!، فأنت أفضل من نيوتن!». ضحكت بصوت عالٍ ارتجّ معه السرير الذى أرقد عليه، حتى خشيت أن تفشل العملية الثانية، التى نجحت بفضل من الله ورحمته.