بقلم - زاهي حواس
خلق الله آدم من طين ونفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى وأسكنه وزوجه الأرض بعد الجنة؛ إيذانًا ببدء الخليقة بمنهج واضح وإن غاب عن الناس بمرور الأزمان!. ويتمثل هذا المنهج الإلهى فى عدة نقاط: أولًا أن خلق آدم جاء من طين، فهو دلالة على الخصب والنماء، وأن من نسله سيُولد بشر يعمرون الأرض، وبالتالى فإن الإعمار غريزة فى البشر تنبع من طبيعة المادة التى خُلقوا منها «الطين». ثانيًا أن الإنسان خُلق ليُخلد فى الجنة، ونزوله ليسكن الأرض ما هو إلا مجرد مرحلة انتقالية يُثبت فيها بعمله ما إذا كان يستحق العودة إلى الجنة أم الذهاب إلى مصير آخر!.
تستمر دورة الحياة، ويتفرق البشر فى الأرض، ويجد جماعة منهم، وهم أجدادنا الأوائل، أنفسهم يسكنون واديًا خصبًا يشقه نهر يفيض عليهم بالخير كل عام، بعد أن كان أسلافهم يسكنون الأرض التى نطلق عليها الآن اسم الصحراء، بينما كانت فى الماضى السحيق أرضًا وفيرة الماء والنبات والحيوان. كان أسلاف الفراعنة يرعون حيواناتهم المستأنسة فى تلك «الصحراء»، ويجمعون غذاءهم ويصطادون أيضًا ما تفىء عليهم البيئة من حيوانات برية. وعندما قلّت الأمطار والمراعى وجفّت الأرض بدأ أسلاف الفراعنة ينزحون رويدًا رويدًا نحو الوادى، الذى يشقه نهر النيل ويفيض عليه كل عام بالخير والنماء.
عرف أجدادنا الفراعنة الزراعة وعرفوا حياة الاستقرار التى منحتهم فرصة التفكير والنظر فى الكون من حولهم، وتوصلوا إلى فلسفة الحياة والموت وحكمة الوجود فى هذا الكون. نظروا حولهم فوجدوا أنفسهم يعيشون على أرض طيبة خصبة تمنحهم الطعام وما يحيكون منه ملابسهم ويصنعون منه أثاث بيوتهم ويبنون بالطين والخشب مساكنهم وبالحجارة دُور عبادتهم ومقابرهم. ومن النهر الذى يتجدد فيضانه كل عام بانتظام يشربون ويسقون ماشيتهم ويزرعون أرضهم ويصطادون السمك مختلف الألوان والطعم، ومن فوقهم شمس تهبهم الدفء والنشاط، ورياح شمالية تخفف عنهم حرارة الصيف، وقد وصفوها فى نصوصهم بـ«النسيم العليل»، تلك الريح كانت تدفع سفنهم على صفحة النهر من الشمال إلى الجنوب، بينما يتكفل تيار النهر بتسييرها من الجنوب إلى الشمال.
كانت كل مفردات البيئة حول أجدادنا الفراعنة تؤكد لهم أن عناصر الخير فى الكون أكثر بكثير من عناصر الشر، ولذلك بنوا إيمانهم منذ فجر تاريخهم على أن استقرار الكون واستمراره إنما يأتى بدعم الخير ونصرته ضد الشر!. وخلّدوا أسطورتهم الشهيرة، المعروفة بأسطورة أوزوريس، نسبة إلى «أوزير»، رمز الخير، وصراعه مع أخيه «ست»، رمز الشر، فـ«أوزير» يمثل أرض مصر السمراء الطيبة التى عليها يحيا أولئك الذين يعمرون الأرض ويزرعون ويحصدون، بينما «ست» يمثل الصحراء القاحلة الموحشة التى منها يغزو سكانها الذين لا يعرفون الاستقرار أو الزراعة الوادى الخصب لينهبوا خيراته ويعيثوا فى الأرض الفساد. وكانت النصرة فى نهاية الصراع للخير، فرغم مصرع «أوزير» على يد «ست»، فإن وريثه الشرعى «حورس» استطاع أن يُقيم ميزان الحق والعدل وينتصر لهما بعد تغلبه على الشر. وصار كل ملك فى مصر هو «حورس» وعليه أن يسير على نهجه من نصرة الخير وتثبيت العدالة. وقد جمع الفراعنة منذ أقدم عصورهم الحق والعدل والنظام فى قيمة واحدة أطلقوا عليها اسم ماعت «الحق والعدل والنظام»، كان على ملك مصر، رغم كل صلاحياته المطلقة ورغم كونه سليل الآلهة على الأرض، أن يُقسم أمام الآلهة فى العالم الآخر بأنه حكم مصر بالـ«ماعت»، أى أنه أقام الحق والعدل والنظام.
آمن الفراعنة أن هذا الصراع الأبدى بين الخير والشر هو ما يحدد مصائر الناس بعد موتهم، فإن كانوا من الأخيار الذين نصروا الحق والعدل والنظام (ماعت) فإن مصيرهم الجنة التى شبّهوها بحقول مصر الخيرة وبها يجرى نهر مثل نيلها! أما إذا كانوا غير ذلك فإن مثواهم الجحيم.
كان من السهل على أجدادنا الفراعنة وهم يعيشون فى بيئة مثالية أن يدركوا أن الموت ما هو إلا مرحلة انتقالية، وليس هو نهاية المطاف، فالشمس بعد أن تشرق تغرب، والنبات بعدما ينمو يُحصد، والنهر بعد أن يفيض ينضب، وهكذا موت بعد حياة، وحياة بعد موت. وتجلّت عظمة الفكر المصرى القديم فى الوصول إلى فلسفة الوجود وحكمة الموت، ولذلك تفرّدوا دون غيرهم من أصحاب الحضارات المعاصرة لهم، وكانوا أيضًا متأثرين ببيئاتهم. ونضرب هنا مثلًا واحدًا بحضارة بلاد النهرين العريقة أو كما يطلق عليها البعض حضارة العراق القديم، وكان أهلها من سومريين وأكديين وبابليين وأشوريين يعانون قسوة البيئة وعناصرها من حولهم؛ فنهرا دجلة والفرات لا يفيضان بانتظام، وكثيرًا ما جاء الفيضان وقت الحصاد وامتنع وقت البذر، بل كان فيضهما خرابًا ودمارًا أو شحًا ومجاعة. وكانت معاناة أهل الشمال تختلف عن معاناة أهل الجنوب، والجميع كانوا يعيشون فى مدن محصنة خوفًا من جار طامع لن يتوانى عن الهجوم والقتل. ولذلك فلا عجب أن أسطورة الفيضان تم تأليفها على أرضهم وليس فى مصر.
ويفسر لنا ذلك أيضًا الفرق بين حضارتين عظيمتين؛ الأولى آمنة مستقرة أبدعت فنًا هادئًا، وصورت وجوه أهلها نضرة تنعم بالحياة، وشيدت عمائر مبهجة للنفس حتى مقابرهم جعلوها مثل المنازل والقصور وزينوا جدرانها ببديع المناظر الملونة وكلها حياة وبهجة. ولا نغالى إذا قلنا إن مقابر الفراعنة تُحبِّب إلينا الحياة ولا تجعلنا نهاب الموت، بعدما أصبح هناك أمل فى بعث جديد وحياة أخرى أبدية. بينما على العكس من ذلك، يمتاز فن أهل العراق القديم بالعنفوان وغلظة الوجوه، وصرامة الملامح، حتى صور الآلهة ومنحوتاتها جاءت خشنة الطابع. وكان الموت عند أهل العراق القديم نهاية للحياة وكل ما بعده مظلم ومنهك، والحياة والموت بالنسبة لهم صراع وكفاح. ومن الإنصاف دائمًا إعطاء أهل العراق القديم حقهم فيما قدموه للبشرية من إنجازات عبقرية سواء فى مجال الهندسة الزراعية، حيث إنهم بحق عباقرة نظم الرى فى العالم القديم كله، وكذلك فإن إنجازاتهم فى الفنون والآداب لا يمكن تجاهلها.
عاش أجدادنا الفراعنة متفائلين فرحين بما وهبهم الإله الخالق من خيرات جعلتهم دومًا يوصفون بأنهم أكثر شعوب الأرض تقوى وإيمانًا، كرسوا جزءًا كبيرًا من خيرات بلدهم للصرف على تعمير بيوت الآلهة والصرف على كهنتها، وكان الفراعنة ينظرون إلى ذلك الأمر باعتباره واجبًا عليهم نحو مَن منحهم تلك النعم، التى كانت كل الشعوب المحيطة بهم تحسدهم عليها. وقد أدت وفرة الإمكانيات والمال لطبقة الكهنوت إلى منحهم الفرصة ليبدعوا فى شتى المجالات مثل الطب والفلك والأدب والسحر وغيرها من العلوم، فتحولت المعابد سواء الكبيرة أو الصغيرة إلى صروح تعليمية وجامعات تمتلك كتب العلم وتحافظ عليها حفاظها على كنوز المعبد من ذهب وفضة.
ارتضى المصريون القدماء العيش والإبداع على أرض مصر ولم يرضوا بغيرها وطنًا يعيشون فيه ويموتون ويُدفنون فى ترابه، ومثال على ذلك قصة «حرخوف»، ذلك الموظف الكبير الذى صار واحدًا من أشهر حكام الجنوب بسبب عمل واحد فقط خلّده على جدران مقبرته، التى تم اكتشافها أواخر القرن التاسع عشر، بقبة الهوا بأسوان! يقول «حرخوف» إن أباه خرج يقود بعثة تجارية استكشافية لمجاهل إفريقيا وحدث أن جاءه الموت وهو فى بلد بعيد عن مصر، فما كان من ابنه «حرخوف» إلا أن قام بتجهيز بعثة هدفها البحث عن الأب لكى يأتوا بجثمانه إلى مصر ليُحنَّط ويُلف بالكتان الطاهر (يُكفن) ويُدفن فى بلده مصر. بالطبع نجح الابن فى تكريم الأب ودفنه فى مصر، وتخليد القصة على جدران مقبرته لكى يثبت للإله ساعة وزن الأعمال أنه كان ابنًا بارًا بأبيه.
ولكى لا يعتقد البعض أن تلك الحادثة، التى ترجع إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، هى قصة استثنائية تمثل حالة فردية، نضرب مثلًا آخر وقع خلال الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى، وهى القصة المعروفة بقصة «سنوهى»، ذلك الجندى الذى فر هاربًا من مصر إلى فلسطين لينجو بحياته، بعدما تأكد أن اسمه قد ذُكر ضمن العصابة التى تآمرت على حياة الملك. هرب «سنوهى» إلى فلسطين، وهناك استطاع بمقوماته ومهاراته كجندى مصرى كسب المال، وتكوين أسرة سرعان ما صارت قبيلة مليئة بالأبناء والبنات. وعندما أحس «سنوهى» بقرب الأجل، بعث برسالة إلى الملك يصف له حاله وما آل إليه بعدما أصبح شيخًا كبيرًا فى قبيلته، ولم تعد له سوى أمنية واحدة فقط، هى أن يصفح عنه الملك ويسمح له بالعودة إلى وطنه مصر لكى يعيش ما تبقى له من عمر، وحين يموت يُدفن وفق العقيدة الفرعونية. وافق الملك على التماس «سنوهى»، وسمح له بالعودة إلى مصر، بل أكرم وفادته هو وأهله كعادة مصر دائمًا.. بلد الأمن والخير.