بقلم - زاهي حواس
لم أكن أتصور أن يأتى يوم أكتب فيه مقال لأنعى تلميذا من تلامذتى الذين علمتهم وربيتهم لتولى مسؤولية حماية تراث هذا الوطن، لكنها إرادة الله ومشيئته نتقبلها بقلوب راضية مؤمنة. رحل عن عالمنا صباح يوم الأربعاء الماضى تلميذى الدكتور رمضان بدرى حسين، باحث شاب فى علوم المصريات؛ حقق فى سنوات عمره التى لم تتجاوز الخمسين ما لم يحققه غيره من علماء الآثار الذين امتد بهم العمر لأكثر من ذلك بكثير. كان من الممكن أن تمر وفاة هذا الشاب فى هدوء ودون أن يفجع بها سوى عائلته والمقربين منه لولا أن لرمضان بدرى قصة خاصة تستحق أن تنشر لعلها تكون ملهمة لأبنائنا الشباب.
ولد رمضان بدرى فى حى شبرا العريق لأب مكافح وأم أفنت نفسها، رحمها الله، فى تربية أبنائها، وتعلم رمضان فى مدارس شبرا الحكومية وعرف كيف يعتمد على نفسه منذ نعومة أظافره ليساعد أسرته، فكان يعمل فى الإجازة الصيفية لتوفير القليل من المال أثناء الدراسة. واستطاع رمضان بعزيمته وصبره على المشاق استكمال سنوات الدراسة، وتخرج فى كلية الآثار جامعة القاهرة. وكان أقصى ما تتمناه أسرته أن يلتحق ابنهم بوظيفة مناسبة ويكون لنفسه أسرة مثله مثل غيره من الشباب!، إلا أن رمضان كان له رأى آخر!، كانت بداخلة طاقة لا حدود لها، يريد أن يصل إلى مرتبة هو وحده الذى يعرفها.
بعد تخرجه مباشرة جاء رمضان لمقابلتى فى مكتبى بجوار أهرامات الجيزة وكان ذلك فى أغسطس من عام ١٩٩٤، وكنت عائدا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولى على الدكتوراه، وعزمت من البداية على تعليم وتدريب مجموعة من الشباب لمساعدتى فيما كنت أعلم أننى مقبل عليه. وكان رمضان واحدا ممن اخترتهم للعمل معى، ومن اللقاء الأول أدركت أن هذا الشاب سيكون له شأن عظيم. كلفته فى البداية بالعمل فى التسجيل الأثرى وتحديدا أعمال التسجيل لمجموعة الآثار بمخزن مقبرة عنخ ما حور بسقارة، بعدها عمل معى بالحفائر سواء فى سقارة أو الواحات البحرية. وعندما لمست منه حبه للتدريس كلفته بإلقاء المحاضرات فى المواقع الأثرية لطلبة السياحة والآثار، وفوجئت بأن الطلبة كانوا يعشقونه لعلمه الغزير وشخصيته الباسمة الهادئة. وكان أول كتاب أقوم بتأليفه عن المرأة الفرعونية وذلك بطلب من السيدة الفاضلة سوزان مبارك لكى يكون ضمن هدايا الوفد المصرى المشارك بمؤتمر المرأة العالمى الرابع الذى عقد ببكين فى سبتمبر ١٩٩٥، وقد ساعدنى رمضان فى جمع المادة العلمية لهذا الكتاب.
لا أذكر أن رمضان بدرى كان طرفا فى أى يوم من الأيام فى مشكلة صغيرة أو كبيرة، بل لم تأتنى شكوى واحدة فى حقه وذلك خلال أكثر من ٢٠ سنة من العمل تحت إشرافى. وقبل نهاية الألفية الثانية، كنت قد قررت أن رمضان يجب عليه السفر إلى الخارج لاستكمال تعليمه ونيل درجة الدكتوراه، والعودة مرة أخرى إلى مصر لتولى مسؤولية الآثار، وذلك على الرغم من أن الاستغناء عن تلميذ ومساعد مثل رمضان بدرى لن يكون بالأمر السهل بالنسبة لى، لكننى فضلت مصلحته هو ومصلحة الآثار بغض النظر عن حرمانى من تلميذ مثالى مثله.
قمت بعمل اتصالات عديدة بعدد من أصدقائى بالجامعات الأمريكية بحثا عن منحة ماجستير ودكتوراه لرمضان؛ وبالفعل وجدت له منحة بجامعة براون العريقة وهى واحدة من أفضل عشر جامعات أمريكية، وتحدثت مع صديقى ليونارد لسيكو، أستاذ المصريات بالجامعة ليقوم بالإشراف على رمضان بدرى، وكانت المشكلة أن المنحة لا تغطى كل نفقات الإقامة والدراسة بالجامعة. وكان أن تكفلت السيدة جانيس بانون التى كانت تمتلك شركة سياحة وتقوم بإحضار الوفود السياحية إلى مصر بدفع باقى المنحة. وسافر رمضان إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ فاصلا آخر من حياته، فهل تنتهى رحلة التحدى والكفاح عند هذا الحد؟!، بالطبع لا!، حيث جاء سفر رمضان بدرى قبل شهر واحد من أحداث سبتمبر ٢٠٠١ وتفجير برجى مبنى التجارة العالمى عن طريق القاعدة، ليعيش رمضان أياما عصيبة عانى فيها من الغربة والوحدة ونظرات الشك ممن حوله واستطاع بعزيمته وطاقة الصبر بداخله أن يهزم الصعاب ويتخطى كل العقبات وينال حب وإعجاب أساتذته وزملائه بقسم المصريات.
عاش رمضان أكثر من سبع سنوات بأمريكا على أقل القليل من المال ونال درجتى الماجستير والدكتوراه، وخلال فترة الدراسة نشر عددا من المقالات العلمية وألقى محاضرات بعدد من المؤتمرات وكان قد أتقن اللغتين الإنجليزية والألمانية. وبعد أن نال درجة الدكتوراه نفذ وعده لى وأبر بالقسم الذى أقسمه على كتاب الله قبل سفره وعاد إلى مصر ليخدم آثار بلده. لقد كان شرطى الوحيد لكل تلميذ من تلامذتى قبل السفر للدراسة هو أن يقسم أن يعود إلى مصر ليحافظ على تراث بلده. سافر رمضان بدرى إلى أمريكا وكنت أنا مسؤولا عن آثار القاهرة والجيزة، وعاد وقد أصبحت أمينا عاما للمجلس الأعلى للآثار. وبدأ العمل مساعدا لى ووليته مسؤولية الإشراف على مركز تسجيل الآثار، وفى مدة قصيرة كان رمضان قد استطاع تطوير العمل بالمركز وتنظيم العديد من المؤتمرات والمعارض بالمتحف المصرى. واستطاع رمضان كسب حب واحترام الجميع سواء المصريون أو الأجانب.
كانت الأمور تنبئ أن رمضان بدرى سيتولى مسؤولية الآثار فى يوم من الأيام، وأن نجمه وسط علماء المصريات سيعلو ويصل إلى ما يرضى طموحه، لكن وقعت أحداث يناير ٢٠١١ المؤسفة وانقلبت الدنيا رأسا على عقب، وعندما تم اختيارى وزيرا للآثار قمت باختيار رمضان كمساعد لى وكنت أنا وهو نعلم جيدا أن الأمر لن يستمر طويلا، وأن أمرا ما يدبر لمصر!، وبالفعل تركت أنا الوزارة وترك رمضان العمل هو وعدد من تلامذتى الذين لم يتصوروا كم الهجوم والحقد عليهم ومحاربتهم من جانب أنصار إله الشر ست، وحزب كارهى النجاح. وتقبل رمضان الأمر بنفس الهدوء وطاقة الصبر التى لازمته طيلة حياته، واستطاع فى وقت بسيط بعد العودة إلى أمريكا الالتحاق بالتدريس بجامعة توبنجن الألمانية، وهى بالطبع غنية عن التعريف، وفخر لكل مصرى وعربى أن يقوم شاب مصرى بالتدريس بهذه الجامعة العريقة.
نجح رمضان بدرى فى إثبات ذاته وقدراته فى بلد الألمان كما فعل بأمريكا، وكأن قدر هذا الشاب هو العيش والمعاناة لإثبات الذات فى بلاد الغربة، وكأن قدره أن تكون حياته كلها كفاحا فى كفاح. وهناك نجح فى تقديم مشروع رائع إلى إحدى الجهات العلمية المانحة وذلك عن طريق جامعة توبنجن ليحصل على تمويل لإعداد بعثة أثرية تحت رئاسته للعمل فى سقارة لنشر مجموعة من المقابر التى تعود إلى العصر المتأخر والتى كان العالم الفرنسى ماسبيرو قد كشف عنها قبل أكثر من ١٢٠ سنة ولم يتم نشرها علميا منذ اكتشافها. وإلى جانب ذلك قام رمضان بأعمال الحفائر حول الموقع إلى الجنوب من هرم الملك ونيس. واستطاع الكشف عن ورشة للتحنيط وآبار دفن ومومياوات وكلها تعود إلى العصر الصاوى والعصر الفارسى أو الأسرتين ٢٦ و٢٧. كنت دائما على اتصال برمضان ولا يكاد يمر أسبوع دون أن نتحدث معا لأطمئن عليه وليطلعنى على تطورات عمله وحفائره، وقد ألح علىّ لزيارته فى موقع الحفائر وعندما ذهبت كان سعيدا مبتهجا تملأ ابتسامته الوسيمة وجهه الأسمر. كان رمضان يريد أن يقول لى انظر أستاذى ومعلمى لم يذهب مجهودك معى هدرا، ها أنا أحقق النجاح تلو النجاح وأضع اسم مصر عاليا فى كل المحافل الدولية التى أحاضر فيها. وفى ذلك اليوم كنت فخورا بتلميذى صاحب الخلق النبيل والعلم النافع، رأيت رمضان ومن حوله أفراد بعثته من أجانب ومصريين وهم يتعاملون معه بكل احترام وتقدير. ونصحت تلميذى بضرورة أن يعرّف العالم باكتشافاته المهمة، وبالفعل نجح فى التعاقد مع قناة الناشيونال جيوجرافيك على عمل مجموعة أفلام وثائقية عن اكتشافاته ليعرف ملايين الناس حول العالم اسم الدكتور رمضان بدرى حسين، ابن حى شبرا الذى وصل للعالمية بكفاحه وعزيمته وقبل ذلك علمه وخلقه. وتقديرا لاسمه ومسيرته فقد قرر الدكتور خالد العنانى وزير السياحة والآثار نشر عدد تذكارى من دورية المجلس الأعلى للآثار باسم الدكتور رمضان بدرى حسين، يشارك فيه عدد كبير من العلماء المقربين إليه رحمه الله بمقالاتهم وأبحاثهم المهداة إلى روحه الطاهرة.
رحل رمضان بدرى وترك لنا ثلاثة ملائكة يوسف وبنيامين ومارتا، بالإضافة إلى عشرات المقالات العلمية والآلاف من القلوب المحبة، رحل عن الحياة بعد أن أحسن فيها وترك أثرا فى قلوبنا يذكرنا دائما كم كنا سعداء لأنه كان يحيا بيننا. رحم الله تلميذى الدكتور رمضان بدرى حسين.