توقيت القاهرة المحلي 10:08:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن مصر وأهلها الطيبين

  مصر اليوم -

عن مصر وأهلها الطيبين

بقلم:زاهي حواس

  يتفق الباحثون فى علوم الحضارات على أن الحضارة المصرية القديمة، المعروفة أيضًا بالحضارة الفرعونية بين العامة، هى الأطول عمرًا واستمرارية بين حضارات العالم القديم، حيث نشأت وتطورت بسماتها وخصائصها المتفردة على مدار أكثر من ثلاثة آلاف سنة، محافظة على هويتها الخالصة، تكتب تاريخها وتسجل إنجازاتها وإخفاقاتها على وجه الحجر وصفحات البردى. وقد سبقت هذه الحقبة التاريخية عشرات الآلاف من السنين قبل عصر معرفة الكتابة، خطا خلالها أجدادنا الفراعنة خطوات عظيمة نحو بناء الحضارة وإعلاء المفاهيم الإنسانية وتشكيل ما يُعرف بالضمير الإنسانى والقيم الإنسانية. وإلى يومنا هذا يحاول العلماء تفسير سبب طول عمر الحضارة المصرية القديمة، الذى يُقاس بعشرات الآلاف من السنين. وقد ذهبوا فى تفسير ذلك مناحى شتى؛ فمنهم مَن فسره بعوامل بيئية وجغرافية، وآخرون مالوا نحو تفسيره بعوامل وحدة الجنس واللغة والدين لشعب مصر، ومنهم مَن جمع كل هذه الأسباب وجعلها سببًا فى طول عمر حضارة الفراعنة مقارنة بكل حضارات العالم القديم.

كان من بين المهتمين بدراسة الشخصية المصرية القديمة، والتى بالمناسبة لا تختلف كثيرًا عن الشخصية المصرية المعاصرة، علماء غالوا فى مدح الفراعنة وأخلاق الفراعنة وأدب الفراعنة وصوّروهم فى صورة أقرب إلى المثالية، ومن هؤلاء العلماء الألمانى أدولف إرمان، الذى وصف الفراعنة بأنهم أهل إيمان وتقوى وورع، وقد أكد إرمان فى كتابه عن الديانة المصرية القديمة أن المصريين هم أكثر البشر تدينًا. كذلك وصف العالِم الأمريكى جيمس هنرى برستيد حضارة الفراعنة بأنها فجر الضمير الإنسانى. وعلى جانب آخر أثارت كتابات المُولَعين بالحضارة الفرعونية غضب وغيرة عدد ليس بقليل من الباحثين، الذين عبّروا عن حقدهم وكراهيتهم للفراعنة فى كتاباتهم التى لا تخلو من عنصرية فى الفكر والهوى، فوصفوا الحضارة المصرية القديمة بأبشع الأوصاف، واتهموها زورًا وعدوانًا بأنها حضارة مستبدة قامت على القهر والطغيان والسخرة!. وقد عزّز هؤلاء الفكرة التى لا يزال للأسف كثير من الجهلاء يؤمنون بها، وهى أن حضارة الفراعنة حضارة كافرة!.

إن أجمل ما فى مصر القديمة بلا منازع هو الإنسان المصرى صانع الحضارة. وكلما اقتربنا منه وسبرنا أغوار الشخصية المصرية، وكشفنا عن أسرارها يتبين لنا أنها بسماتها الفريدة سبب البقاء والاستمرارية، حيث استطاع المصرى أن يطوع الطبيعة، ويروض النهر، فمهد الأرض وحرثها ووضع بها البذرة ورعاها. زرع كل شبر من الأرض السوداء التى تصلها مياه النهر وتلك التى لا تصلها حفر لها بيديه الترع والقنوات ونظّم رَيّها وصرفها فجنى خيرها، الذى اقتسمه بينه وبين ما استأنسه من حيوانات، وأخرج منه كذلك نصيبًا معلومًا للإله يؤديه عن إيمان للمعبد، ويقوم على إطعام الفقير واليتيم وغير القادر على العمل. وكان من ضمن ما يحرص عليه المصرى القديم هو القَسَم أمام الإله بأنه لم يغتصب طعام أحد، ولم يحرم فقيرًا أو يتيمًا أو أرملة من طعام.

بنى المصرى مسكنه من قوالب الطين وجذوع النخيل، وجعل نوافذه تواجه الشمال لتستقبل النسيم العليل كما وصفه فى نصوصه. وجعل منزله بيت راحته ولهوه مع أطفاله ومملكة زوجته. كبر المنزل أو صغر كانت الزوجة هى «ست البيت» بالتعبير الفرعونى، تُجرى وتدبر شؤونه كما تعلمت من أمها، تربى أبناءها وتعلمهم فى المنزل قبل أن ترسلهم إلى المدرسة فى المعبد القريب. وكانت الحكمة التى تُقال للشاب المصرى المقبل على الزواج هى «أَحِبَّ زوجتك، ووفِّر لها الطعام والكساء، وعطِّر بدنها، ووفِّر لها زينتها»، وأوصى الحكيم الزوج بألّا يسأل زوجته عن شىء فعلته داخل منزلها: لِمَ فعلتِ ذلك؟، أو لِمَ لم تفعلى ذلك؟. لذلك نعمت الأسرة المصرية القديمة بحياة هانئة مستقرة، حيث تكاد تنعدم حالات الطلاق فى المجتمع القديم.

لقد أثارت الزوجة المصرية القديمة العجب عندما قامت بخطبة فتاة لزوجها لكى تنجب له أولادًا حينما علمت أنها عقيم!، ولم يكن الزوج وزوجته الجديدة أقل منها إنسانية، حيث نراهما وقد أطلقا اسم الزوجة الأولى على ابنتهما!. لسنا نتحدث عن حالة فردية بالمجتمع ولكن عن حالات عديدة تظهر فيها الزوجة الثانية إلى جوار الأولى فى جو من التعايش السلمى، وإن لم يَخْلُ الأمر أحيانًا من وجود بعض المشاكل بين الضرائر.

لم تكن هناك قوانين مكتوبة قبل عشرات الآلاف من السنين حين عاش المصريون فى قرى زراعية نمَت واتّحدت وتحولت إلى مدن وأقاليم، ولكن كان هناك الإيمان بالدين والأخلاق وقيم إنسانية تتعدى مرحلة الابتعاد عمّا هو معروف ومُجرَّم مثل القتل والنهب والسرقة والزنى وغير ذلك، بل كان المصرى القديم يُقسم أمام الإله فى العالم الآخر بالآتى لكى يفوز بالجنة:

بالتأكيد أن معرفة الإنسان المصرى بهذه الشرور تعنى وجودها ضمن مفردات الحياة، ولكن يُحسب له أنه آمن بأن صلاح الحياة والمجتمع يأتى بعدم ارتكابها، أو على الأقل عدم السعى فى أن تكون هى الشائعة فى المجتمع.

كانت حياة الزراعة تتطلب تكاتف الناس والتعاون فيما بينهم فى الزراعة والحصاد وتخزين الحبوب، ولذلك تطبّعت الشخصية المصرية منذ أقدم العصور بالطابع الاجتماعى المُحِب للعشرة و«الونَس» واللّمة. وكانت الأفراح والمآتم ومناسبات مثل بناء منزل جديد أو مولد طفل جديد أسبابًا لاجتماع كل أهل القرية والتعاون والتكاتف فيما بينهم.. الأمر الذى أشاع الأمن والأمان بين المصريين، ووطّد أواصر الألفة والمحبة بينهم. وكان أن وصف أحدهم امتلاك شخص صديقًا وفيًّا بأنه أغلى من الذهب والفضة، كما حرص الحكيم على أن يوصى ابنه بجيرانه وأهل قريته، وأن يكون دائمًا فى عون المحتاج تحسبًا ليوم يحتاج فيه لمساعدة. وعلى جدران مقابر الدولة الحديثة بالأقصر، نرى ألوانًا شتى لولائم وحفلات دُعى إليها عشرات من أصدقاء وجيران ومعارف صاحب المقبرة وزوجته، وفيها ألوان من الرقص والغناء والمسامرة على موائد الطعام والشراب.

ولقد أطلق المصريون القدماء على بلدهم مصر ألقابًا عدة، منها الأرض الطيبة والأرض المحبوبة وأرض الخير. هذه الأوصاف لم تأتِ هباءً أو دون سبب، حيث وهبت أرض مصر الخير لأهلها، ووفرت لهم الغذاء مما تنبت أرضها من قمح وحنطة وحبوب وخضروات وفاكهة وصفها أجدادنا بأنها «أشهى من عسل النحل»، ولا يزال وصف «أحلى من السكر» ضمن مفردات لغتنا العامية، كما وفر نهرها الطيب الماء العذب وأكثر من ٤٥ نوعًا من الأسماك، تم تسجيلها فى منظر واحد للصيد على جدران أحد المقابر من الدولة القديمة، كذلك كانت الطيور البرية من بط وإوز كثيرة، ويتم صيدها من أحراش النهر وعند شواطئه. ولم تكن صحراء مصر بأقل عطاءً من واديها الخصب، فهناك غزلان وظباء وماعز وغيرها من حيوانات طيبة اللحم تجود بها الصحراء، الغنية أيضًا بمناجم الذهب والحديد وغيرهما من المعادن، إضافة إلى أنواع من الحجر سواء اللين أو الصلد، الذى استطاع المصرى القديم أن يبدع فى ترويضه وتشكيله.

بنى المصريون القدماء بيوت آخرتهم من الحجر، وكذلك شيّدوا منه السدود والقلاع والمعابد، وحفظوا على سطوح الحجر علومهم وآدابهم وفنونهم، ولا ندرى السبب فى أن هذه المعجزات حُفظت لنا، هل لأنها فقط سُجلت على الحجر، أم أن البيئة والطبيعة المصرية ظلّت دومًا حنونة على كل ما خطّته اليد المصرية سواء كان على الحجر أم على الطين؟. بالفعل ليس هناك من سبب مقنع لبقاء عمائر وفنون الفراعنة بمثل هذه الدرجة المتقنة من الحفظ طوال هذه الآلاف من السنين سوى أنها إرادة الله الخالق العظيم فى أن يُبقى على أروع حضارة هدَت البشرية كلها إلى قيمة أن يكون الإنسان إنسانًا فى هذا الكون!.

على أن حياة المصرى القديم لم تكن دومًا سهلة هنيئة، فلا نعرف على وجه هذه الأرض إنسانًا صبر على بلاء الطبيعة والظلم مثلما فعل المصرى القديم، الذى عصفت الطبيعة أحيانًا بحياته إما بفيض النهر الزائد عن حد الأمان أو العكس عند النقصان لحد الجفاف والمجاعة، وفى الحالتين لم يهجر المصرى بلده بحثًا عن بلد آخر، بل تحمل وصبر وتدبر أمره حتى انكشفت الغمة، كذلك عانى المصرى ظلم وقهر المحتل فى عصور ضعف مصر، فلم ييأس وصبر حتى قهر أعداءه وأسكنهم خزائن النسيان، بعد أن ظنوا أن مصر بشعبها قد دانت لهم. وقد ظلت الروح المصرية الصابرة المرحة والفكهة هى السلاح الذى قهر كل حاقد وعدو أراد بمصر وأهلها الشر.

أما عن مناسبة هذا المقال فهو إهداء إلى أبواق جماعة الشر المنتشرة على منصات ما يُعرف بالتواصل الاجتماعى، والتى تنعق ليل نهار، مستغلة ظروفًا اقتصادية طاحنة يعانى منها العالم كله، وسط أزمات وصراعات القوى العظمى. هذه الأبواق وما تبثه من سموم تظن أنها قادرة على النَّيْل من الشخصية المصرية، وآفة هؤلاء الواهمين هى الجهل بالشخصية المصرية، فلو أنهم يعرفون حق المعرفة جذور هذه الشخصية لغيّروا خططهم، ولكن نحمد الله على جهلهم، وكفَى الله مصر والمصريين شر جهلهم

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن مصر وأهلها الطيبين عن مصر وأهلها الطيبين



GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

GMT 22:47 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حرب القرن

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

كندة علوش تدعم فلسطين بإطلالتها في مهرجان الجونة 2024
  مصر اليوم - كندة علوش تدعم فلسطين بإطلالتها في مهرجان الجونة 2024

GMT 07:32 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لتنسيق الديكورات حول المدفأة الكهربائية
  مصر اليوم - نصائح لتنسيق الديكورات حول المدفأة الكهربائية

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

النيابة المصرية تكشف تفاصيل مأساوية في قضية طبيب التجمع
  مصر اليوم - النيابة المصرية تكشف تفاصيل مأساوية في قضية طبيب التجمع

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon