بقلم:زاهي حواس
لم تتغير علاقة المصريين بالدين وبالإله منذ عصور النشأة الأولى للحضارة المصرية القديمة وإلى يومنا هذا، ولم يغير مسمى الديانة من طبيعة وعلاقة المصرى بربه وبإيمانه المطلق فى قدرة الخالق ورحمته كما سنرى فيما بعد. فعندما آمن المصريون بالديانة المصرية القديمة، وبعدها المسيحية والإسلامية حافظوا على العلاقة الوثيقة بالإله واللجوء إليه فى كل الأحوال، سواء السراء أو الضراء. وأصبح الخوف من الله سمة المصريين، حتى إن عالم المصريات الألمانى أدولف إرمان، مؤلف كتاب «ديانة مصر القديمة»، وصف المصريين بقوله «المصريون شعب يخاف الله».
وبعيدًا عن النصوص الدينية المسجلة على جدران المعابد الفرعونية، وكذلك على جدران مقابر الفراعنة، سواء الملكية أو غير الملكية، والتى يرى كثير من الباحثين والمتخصصين فى الديانة المصرية القديمة أنها تعكس فقط مفهوم الدين والعقيدة عند المصرى القديم، وتتوقف عند حد سرد القصص والأساطير الدينية، وكذلك الأدعية بصيغها الرسمية التى توجه للإله صاحب المعبد أو المسيطر على مصير الموتى، وهى بذلك لا تعكس العلاقة الحقيقية بين الناس والإله والدين. ولذلك كان لا بد من البحث عن مصادر أخرى تعكس هذه العلاقة، ولحسن الحظ، أو فالنقل إن غزارة الإنتاج فى كل مجالات الإبداع فى مصر القديمة قد حفظت لنا الكثير والكثير من كنوز هذه الحضارة وإبداعات أهلها، ومنها ذلك الكنز الثمين من أوراق البردى المكتوب وقطع «الأوستراكات» ونقصد بها النصوص والرسومات المسجلة على كسرات الفخار والحجر الجيرى وأحيانا على الخشب والعظم.
وقد وصل إلينا من قرية العمال والفنانين بدير المدينة آلاف من النصوص المسجلة، منها ما هو أدبى أو تجارى خاص بالمعاملات التجارية، أو دينى أو حتى قانونى عبارة عن مجموعة من الفتاوى القانونية فى مسائل الزواج والميراث وقضايا التبنى، وأيضا أحكام قانونية فى قضايا تم نظرها أمام المحكمة. وما يعنينا هنا هو تلك النصوص الدينية التى تساعدنا فى فهم العلاقة بين المصريين، خاصة طبقة العمال والفنانين وبين الإله. وأول ما يلفت النظر هو أنه على الرغم من تقدم علوم الطب بمصر القديمة ووجود أطباء على درجة كبيرة من العلم والمعرفة، ومنهم المتخصصون فى طب العظام والباطنة والأسنان والعيون، إلا أنه كان هناك إيمان عميق لدى أجدادنا الفراعنة، مثلما هو الحال اليوم، أن كل من الداء والدواء من عند الإله، هو من يصيب ويشفى، وأن الطبيب قد يعجز بعلمه عن شفاء المريض حسب مشيئة الإله. ومن أجمل ما وصلنا منهم فى هذا الشأن رقية لشفاء مريض يتلوها الكاتب نخت سوبك طلبًا لشفاء العامل المريض آمون نخت: «بالحياة والسعادة والصحة أدعوك يا آمون رع، يا سيد الآلهة بالآتى: باسم آمون وموت وخونسو، وكل آلهة طيبة وكل إله وإلهة تسكن الغرب أن تعطوا الحياة لآمون نخت، والصحة وطول العمر وشيخوخة جميلة مريحة (خالية من المتاعب)، وأن تجعلوا آمون حوتب (الملك آمون حوتب الأول) سيد القرية يرعاه ويحفظه كل يوم».
وكانت النذور إلى الإله من الوسائل المعروفة عند الفراعنة، سواء لنيل رضا الإله، أو لتحقيق مأرب أو أمنية، أو حتى دفع شر والخروج سالمًا من مشكلة أو ضيق أو مرض. يقول حور نفر: «يا إلهى! يا سيد عروش الأرضين (مصر العليا والسفلى) لو وقفت بجانبى فالسوف أهدى إليك جرة نبيذ وفطائر وأرغفة الخبز الأبيض». وحرص المصريون القدماء على ألا يغضبوا الإله بفعل كل ما نهى عنه، ليس فقط بالبعد عن كل ما حرم من جرائم كالقتل والسرقة والزنا وغيرها، بل والبعد أيضًا عن سوء الخلق، وما كانوا يعتقدون أن الإله لن يقبله منهم، مثل عدم طاعة الوالدين واحترام الكبير والعطف على اليتيم وعدم حرمانه من ميراثه، وما إلى ذلك من فضائل سجلوها فى نقوش مقابرهم، مثل حاكم المنيا فى عصر الأسرة الثانية عشرة، والذى كتب على جدران مقبرته يستعطف الإله ويعدد مناكبه بقوله: «لقد أحسنت إلى الأرملة ووفرت لها الحماية، وعطفت على اليتيم ولم أحرمه ميراثه، وأطعمت الجائع وكسوت العارى، وأطعمت حتى الذئاب فى الصحراء لكى لا تهاجم راعى غنم لتفترس قطيعه!». وإذا حدث وارتكب أحدهم فعلًا أو أتى بعمل يغضب الإله فكان على يقين أن جزاء عمله سيلحق به فى الدنيا والآخرة إن لم يكفر عن خطيئته، ومثال ذلك ما حدث مع الرسام باى، والذى أتى ما يغضب الإله، وللأسف لم يذكر لنا ماذا فعل أو ما هو الجرم الذى اقترفه، ولكنه ذكر أن العمى الذى أصاب عينيه إنما كان انتقام الإله منه على ما فعل من جرم. وكذلك كان الأمر مع نخت آمون، وهو ابن الفنان نب رع، وقد ابتلاه الإله بالمرض بسبب عدم طاعته للإله. وأيضا أصيب العامل نفر آبو بالعمى فى وضح النهار بعدما أقسم زورا باسم الإله. وقد حدث أن أقسمت السيدة نوب أمنمحات بأنها لا تعرف شيئًا عن سرقة أدوات من منزل العامل نب نفر ابن نختى، ولكنها عادت مرة أخرى بعد أيام لتشهد بأنها رأت من الإله ما جعلها ترتعد خوفًا من غضبه بعدما كذبت وأقرت بأنها رأت السيدة حريا تخرج من منزل نب نفر وهى تحمل المسروقات!.
وكان أخشى ما يخشاه المصرى القديم هو أن يموت بعيدًا عن بيته وعن أهله، وقد حدث أن سافر الكاتب تحتمس إلى الدلتا فى مهمة عمل، لكنه مرض فى سفره وكتب يدعو الإله آمون رع أن يشفيه من مرضه وأن يكتب له السلامة حتى يعود إلى بيته وإلى أهله، ودعا بأن يكون موته بين أهله وفى داره، وألا يأتيه الموت وهو فى غربته. ومن أجمل الرسائل التى وصلتنا من مجتمع دير المدينة، رسالة من ابن بالتبنى إلى أبيه الذى تبناه، وهو الكاتب نفر حوتب، وفى الرسالة يدعوا الابن لنفر حوتب بطول العمر والسعادة والصحة، وأن يمد الإله فى عمره ليظل أبًا ناصحًا له، ولكى لا يعود يتيمًا مرة أخرى. أما أطرف ما وصلنا من هذا المجتمع فهو رسالة كتبها النحات خونسو إلى أمه يستعطفها أن تدعوا له الإله، وترجوه أن يصفح عنه، وأن تجد له حلًا بعد أن بات على وشك أن يحنث بقسم أقسمه باسم الإله. والقصة أن خونسو هذا كان بدينًا لدرجة المرض يحب أكل اللحوم وبكميات كبيرة، ولما أصبح يعانى المرض بسبب هذه العادة أقسم باسم الإله أنه لن يأكل اللحم مرة أخرى!. ولكن يبدو أن حبه لأكل اللحوم غلبه وصار يعانى خوفًا من عقاب الإله بعد حنثه بالقسم الذى أقسمه، ويبدو كذلك أنه شعر بأن الإله لن يغفر له فعلته مهما حاول، ولذلك بدأ يفكر حتى هداه عقله إلى أن الإله ربما يغفر له إذا تشفعت له أمه عنده. وبغض النظر عن طرافة القصة، إلا أنها تظهر لنا مكانة الأم عند المصرى القديم والاعتقاد بأن الأم هى أقرب مخلوق للإله وأنها إذا دعته استجاب لدعائها.
ومن الخطأ أن يعتقد البعض أن اللجوء إلى العرافين والدجالين لعمل ما يسمى بالأعمال التى تلحق الشر بأعدائهم أو عمل الأحجبة «جمع حجاب بمعنى حرز» هى من عادات مجتمعنا المعاصر نتيجة انتشار الأمية أو الجهل بين طبقات بعينها من المجتمع؟!، فالحقيقة أن أصول هذه الممارسات قديمة، تعود إلى زمن الفراعنة. وكثيرًا ما عثرت خلال حفائرى فى الجيزة وسقارة على كثير من الأعمال السحرية غير المفهومة مكتوبة بالمداد الأحمر على الفخار والعظم والحجر. وكان الخوف من الأعمال السحرية يدعو المصريين إلى أن يحتاطوا باللجوء إلى الإله وسؤاله أن يحفظهم ويحميهم من السحر ومن شر الحسد والعين الشريرة. وحدث أن فقد أحد سكان قرية دير المدينة الحجاب الذى كان يحمله معه دائمًا وكان هذا الحجاب عبارة عن تميمة الربة تاورت «وتمثل على هيئة أنثى فرس النهر»، واعتقد صاحب الحجاب أنه سرق منه، وارتعد خوفًا من أن يستعمله السارق ضده!، يقصد بذلك أن يستعمله «كأتر كما ينطقه العامة»، كون الحجاب كان ملاصقًا لجسده ويحمل عرقه ورائحته، وبالتالى يمكن استعماله كأثر يدل عليه فى عمل سحر شرير يصيبه بما يكره.
وكانت مسألة «الأتر» أو «الأثر» الدال على صاحبه من الأمور التى يحتاط الفراعنة لها، فكانت آخر طقسة بعد الدفن أو زيارة المقبرة هى مسح آثار الأقدام من على الأرض بمقشة أو سعفة نخيل حماية لكل من المتوفى والزائر وتعرف الطقسة بـ«إينت رد». نحتاج إلى مجلدات للحديث عن علاقة المصريين بالدين وبالإله، فالإيمان والتقوى والورع هو ما حافظ على روحهم الجميلة الخلاقة التى مهدت طريق التحضر للإنسانية قديمًا، ولا تزال إلى الآن هى الملجأ وطوق النجاة فى أحلك الأزمات وأوقات الشدة.