توقيت القاهرة المحلي 21:29:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هاميس.. آخر عروس للنيل

  مصر اليوم -

هاميس آخر عروس للنيل

بقلم:زاهي حواس

فى نوفمبر عام ١٩٦٣، ظهرت «البوسترات» الدعائية بشوارع ومحطات ترام الإسكندرية لفيلم مصرى جديد اسمه «عروس النيل». الفيلم من بطولة لبنى عبدالعزيز و«جان» السينما المصرية، رشدى أباظة، والفنانة شويكار ومجموعة كبيرة من النجوم. والفيلم من تأليف وسيناريو وحوار سعدالدين وهبة، ومن إخراج فطين عبدالوهاب.

فى ذلك الوقت كنت قد وصلت للتو إلى الإسكندرية- عروس البحر المتوسط- وافدًا من دمياط، بعد حصولى على الثانوية العامة، والتحقت بجامعة الإسكندرية بالفرقة الأولى بكلية الحقوق، وبعدها بأيام قليلة قمت بتَرْك «الحقوق» والالتحاق بالقسم المُنشأ حديثًا بكلية الآداب، وهو قسم الآثار اليونانية الرومانية، ولم أكن بعد قد قرأت سطرًا واحدًا فى أى من كتب التاريخ أو الآثار أو اللاتينى واليونانى التى سندرسها.

وبمجرد ظهور الفيلم الجديد لرشدى أباظة، قررت وشلة الأصدقاء الذهاب إلى سينما مترو بشارع صفية زغلول يوم الخميس بعد انتهاء المحاضرات ومشاهدة الفيلم فى حفل الساعة السادسة مساء. وبالفعل ذهبنا وشاهدنا فيلم عروس النيل، وكنا نضحك من قلوبنا على خفة دم «هاميس» والمواقف الكوميدية لآخر عروس للنيل، والتى بُعثت من قبرها لتحذر «سامى بتاع الجاز»، من الحفر ودقّ البريمات داخل معبد الكرنك.

خرجنا من السينما ونحن نتحدث عن الفيلم، واتفقنا جميعًا، (لاحظ أننا طلبة لم يتجاوز عمر أكبرنا الثامنة عشرة)، على أنه من أفلام الفانتازيا الكوميدى الخفيف، وسُررنا بأننا أمضينا وقتًا جميلًا، وضحكنا على «هاميس»، التى اضطرت إلى العودة لـ«أخيتاتون» عند الفجر!. ولحسن الحظ وجد «سامى بتاع الجاز» بديلة «هاميس» فى نهاية الفيلم، ونحن بالطبع نعشق النهايات السعيدة!. خرجت من السينما وقد تغيرت نظرتى إلى الفنانة لبنى عبدالعزيز، التى أصبحت منذ ذلك اليوم وبسبب هذا الفيلم هى فتاة أحلامى، ونموذجًا للجمال والأنوثة وخفة الظل، حتى طريقتها الغريبة فى نطق الكلمات أحببتها وعشقتها.

وسألت نفسى: لماذا لم تلفت لبنى عبدالعزيز نظرى من قبل، وقد شاهدت لها «الوسادة الخالية» و«أنا حرة» و«وا إسلاماه» و«آه من حواء»؟!. لم أعرف فى ذلك الوقت السبب الذى جذبنى إلى جمال لبنى عبدالعزيز فى دور «هاميس»، والذى أنسانى أن الفنانة القديرة شويكار كانت تمثل معها فى الفيلم!، وحقيقة لا أدرى سببًا مقنعًا يجعل شويكار تؤدى دورًا غير مؤثر على الإطلاق، بل لا معنى له أو أهمية، وكان من الممكن أن تؤديه أى فنانة ثانوية!.

بالطبع لم نناقش فكرة وجود ما يسمى «عروس النيل» أيام الفراعنة أم لا!، حيث كنا كلنا مقتنعين تمامًا أنه كانت هناك عرائس جميلة تُلقى فى نهر النيل، وأن «هاميس» هى بالفعل آخر عروس للنيل، وقد بنى المؤلف الفيلم على معلومة تاريخية. واتفقنا جميعًا على أن نيل مصر محظوظ للغاية باحتضانه آلاف البنات الجميلات اللاتى تم إلقاؤهن فى مياهه كى تفيض بالخير والخصوبة على مصر!.

مضت سنوات الدراسة بالكلية، ولم أجد أى ذكر لـ«هاميس»، أو أى عروس أخرى بين ما كتبه الرحالة والمؤرخون اليونانيون وغيرهم أمثال هيرودوت واسترابون وديودور الصقلى وكليمان السكندرى وبلوتارك، وذلك على الرغم من أن هؤلاء لم يتركوا صغيرة أو كبيرة إلا وراحوا يسهبون الكلام عنها، حتى عادة أن المصريين يستحمون أكثر من مرة فى اليوم!، كانت بالنسبة لبعضهم شيئًا من ضروب الغرائب والعجائب، كما أنهم أسهبوا فى وصف كيفية احتفال الفراعنة بعيد وفاء النيل دون ذكر أى شىء عن إلقاء عروس بكر فى النيل!، فكيف لم يكتب أى منهم عن «هاميس»، معشوقتى الجميلة؟.

تجرأت يومًا ونحن داخل قاعة المحاضرات قبل شهر أو شهرين من التخرج، وسألت أستاذى الجليل، الدكتور فوزى الفخرانى، عن السبب الذى جعل كل المؤرخين يتجاهلون ذكر أى شىء عن «هاميس»، نظر إلىَّ أستاذى متسائلًا: مَن؟، مَن تقول؟، «هاميس» مَن؟، أجبته باستغراب: «هاميس»، آخر عروس للنيل؟!، انفجر الجميع بالضحك، وبعضهم كان معى منذ سنوات بالسينما وشاهد معى لبنى عبدالعزيز وهى تؤدى دور «هاميس»، آخر عروس للنيل!. المهم أننى تلقيت صدمة مروعة فى ذلك اليوم، حيث قال لى أستاذى إنه لا يوجد شىء اسمه «عروس النيل»، وإن تلك مجرد أكذوبة وخرافة!.

جلست وأنا لا أكاد أصدق أن الفنانة الجميلة البريئة لبنى عبدالعزيز خدعتنى وكذبت علىَّ طوال تلك السنوات؛ بل ورّطتنى مع أستاذى، فوزى الفخرانى، وأنا طالب بـ«الآثار». كانت الصدمة شديدة، وكان لا بد لى من معرفة أصل الحكاية، وذهبت إلى المكتبة الأم لكلية الآداب، وبدأت أفتش فى كتب التاريخ والآثار علّنى أجد ذكرًا لـ«هاميس»، وربما أكون محظوظًا، فأرى صورة لها منحوتة على معبد من معابد الفراعنة، فيرتاح قلبى أن لبنى عبدالعزيز لم تكذب علىَّ.

وعلى عكس ما تمنيت، اكتشفت حقيقة الوهم الذى عشته طيلة أربع سنوات بسبب لبنى عبدالعزيز، وعاشه ملايين من البشر لأكثر من ألف سنة بسبب الخرافة التى ذكرها المؤرخ الإسلامى الكبير، أبوالقاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم، المولود فى مصر عام ٨٠٠ ميلادية، والمتوفى عام ٨٧١ م. يقول ابن عبدالحكم: «لما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل شهر بؤونة، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنّة لا يجرى إلا بها!.

فسألهم عمرو: وما هى؟، فقالوا: إنه كلما جاءت الليلة الثانية عشرة من هذا الشهر، عمدنا إلى فتاة بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى النيل.. فقال لهم عمرو: هذا لا يكون فى الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله.. فأقاموا شهور بؤونة وأبيب ومسرى والنيل لا يجرى قليلًا ولا كثيرًا، حتى همَّ الناس بالرحيل عن البلاد، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يخبره بالأمر، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه، أن قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها فى النيل إذا أتاك كتابى.

فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: (من عبدالله، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر.. أما بعد.. فإن كنتَ تجرى من قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يُجريك فنسأل الواحد القهار أن يُجريك)، فألقى ابن العاص البطاقة فى النيل، وكان أهل مصر قد تهيأوا للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، وأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعًا فى ليلة واحدة!!».

بالطبع رواية ابن عبدالحكم لم تحدث، ولا أساس لها من الصحة، حيث يفصل بين عصر ابن عبدالحكم وعصر الفاروق عمر أكثر من قرنين من الزمان، ولا نعرف السبب من وراء ذكر هذه الخرافة التى عاشت وتناقلها الناس والمؤرخون والرحالة من بعده لأكثر من ألف عام. وتم بكل بساطة اتهام الفراعنة زورًا وبهتانًا بقتل فتاة عذراء جميلة بإلقائها حية فى نهر النيل كل عام. وقد ثبت بالدليل القاطع أن الفراعنة لم تكن لديهم طقوس دينية يضحَّى خلالها بالبشر من أجل الإله!، حتى إله النيل، «حابى»، صُور بشكل رجل بدين، له بطن عظيم، رمز الخصوبة والنماء، وثديان متهدلان ينهمر منهما الماء، وهو بهذا المظهر الذكورى والأنثوى يرمز الى الخصوبة والخير، ولم يذكر الفراعنة فى نصوصهم ومناظر احتفالاتهم بعيد عطاء النيل أنه كانت هناك عروس عذراء تُلقى فيه.

تغزّل الشعراء والأدباء الفراعنة فى النيل وفضله وعطائه ونظم الشعراء قصائد المدح والحب فى جمال نهر النيل وفيضه السنوى على أرض مصر، ولم يذكروا شيئًا عن عروس يُضحَّى بها من أجله!، بل منهم مَن قال فى النيل: «هو النيل الذى يفيض على الوجهين القبلى والبحرى، فتمتلئ مخازن الحبوب.. وتزدحم المستودعات وتتوافر حاجات الفقراء.. هو النيل مُلبِّى كل الأمانى دون نقصان.. هو مُنشئ المراكب.. وهو غنى عن أن تُقام له النصب التذكارية باسمه، أو أن تُنحت له تماثيل عليها تيجان.. لا يراه أحد.. ولا يطلب ضريبة من أحد أو هدية، ولا يفتتن بالكلمات (الأشعار) ذات الأسرار الخفية!». بمعنى آخر: النيل يهب مصر الخير والنماء دون الحاجة إلى تقديم أى شىء.

غادرت المكتبة، وأنا لا أعلم كم من الوقت قضيت، لكنى اكتشفت السر الذى جعلنى أهيم حبًّا بلبنى عبدالعزيز أو لأكون أكثر دقة بـ«هاميس»!. لقد كان الزى الفرعونى وكحل العينين وباروكة الرأس والقلائد والحلى والجمال الفرعونى هو ما أوقعنى فى عشق «هاميس». يبدو أن الفراعنة كانوا يجذبوننى إليهم شيئًا فشيئًا وأنا لا أدرى. وتذكرت النداء الشهير بالفيلم «عودى يا هاميس عودى عند الفجر».

وتساءلت: لماذا تحديدًا عند الفجر؟، ولماذا لا يكون الموعد العصر أو المغرب مثلًا؟، هل كانت هناك حكمة من هذا الموعد؟، قبل ازدحام المواصلات مثلًا!، أو هل أراد المنادى أن يعطيها فرصة إلى الفجر قبل أن يصحو أخيتاتون ويكتشف خيانة هاميس، آخر عروس للنيل، له مع رشدى أباظة؟. المهم أننى ضحكت على مدى سذاجة الفيلم والفكرة وكل شىء، وأولهم أنا نفسى، وكنت وقتها طالبًا عمره سبعة عشر سنة.. لبنى عبدالعزيز.. الله يسامحك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هاميس آخر عروس للنيل هاميس آخر عروس للنيل



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:47 2020 الثلاثاء ,11 شباط / فبراير

ميسي وصيفا لـ محمد صلاح تسويقيا

GMT 16:55 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السويد تعتقل عراقيا اتهمته بالتجسس لصالح إيران

GMT 06:05 2020 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

تعرّف على الفوائد الصحيّة لفيتامين "ك" ومصادره الطبيعية

GMT 05:39 2020 الخميس ,06 آب / أغسطس

حقيقة إصابة خالد الغندور بفيروس كورونا

GMT 07:44 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

سيفاس يفوز على دينيزليسبور بصعوبة في الدوري التركي

GMT 22:48 2018 الثلاثاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

منى زكي تؤكد هشام نزيه موسيقار عبقري ويستحق التكريم

GMT 09:07 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

رجل يعتدي على فتاة بالضرب بسبب صفّ السيارات في تكساس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon