بقلم : زاهي حواس
نسبة إلى مدينة قفط العريقة شمال الأقصر فى أقصى صعيد مصر، واسم القفطاوية معروف فى جميع المراجع الأثرية، فهو الاسم الذى يطلق على عمال الحفائر الفنيين. ارتبطت قفط وأهلها بعلم الآثار المصرية منذ حوالى أكثر من قرنين من الزمان. تدربوا على فنون الحفائر ونقل التماثيل الضخمة، ولذلك اعتبروا جزءًا من الاكتشافات الأثرية. أقام المعهد الهولندى للآثار برئاسة مارلين دى مير مؤتمرًا تحت اسم «القفطاوية» تحدث فيه علماء الآثار عن هؤلاء العمال الفنيين الذين عملوا فى الحفائر الأثرية منذ عام ١٩١٣ وحتى عام ١٩٤٧.
كانت أول حفائر أقوم بها فى كوم أبو بللو بالبحيرة؛ حيث كان من المخطط حفر ترعة لوزارة الرى باسم مشروع الرياح الناصرى، بمسافة عدة كيلو مترات داخل المناطق الأثرية، لذلك اتفقت وزارة الرى مع هيئة الآثار المصرية فى ذلك الوقت على حفر المسار المار فى المنطقة الأثرية على حساب وزارة الرى. وهناك أقمت فى كوم أبو بللو لسبع سنوات متواصلة لم أحصل خلالها على يوم واحد إجازة، وهناك قمت بعمل اكتشافات عظيمة. وكان يعمل معى حوالى ١٠٠ عامل، بالإضافة إلى بنات فى سن العشرين يحملن الرمال المستخرجة من الحفائر وهن ينشدن الأغانى الجميلة التى تشجعهن على العمل. قمت أيضًا بالاتفاق مع حوالى ٥٠ عاملًا من منطقة قفط، وكان يترأسهم الريس حامد وابنه عبد الوهاب، وكانا يتحملان مسؤولية حضور العمال وتنظيمهم. وكذلك كان معى الريس دكتور، وهو اسمه الحقيقى الذى أطلقه عليه أبوه، وكان الريس دكتور لا يعرف القراءة أو الكتابة لكنه كان بارعًا فى أعمال الحفائر، وكان طويل القامة كأنه أحد فراعنة مصر. وكان معى الحاج محمد وكان يعمل فى الترميم، وكذلك المسؤول عن أجور العمال. وكان قوى الشخصية وله يد من ذهب، يستطيع تحويل التماثيل التى تخرج شبه متحللة إلى تماثيل رائعة.
كشفنا فى كوم أبو بللو عن أكثر من تسعة تماثيل للإلهة أفروديت إلهة الحب والجمال، وقد أبدع الحاج محمد فى ترميم هذه التماثيل وما زلت أذكر القفطاوى فرج والذى تم تعيينه لكى يحضر لنا الخطابات ويرعى شؤون المفتشين داخل الخيمة، وكان من عادة القفطاوية أن يأتوا لزيارة مفتشى الآثار يوم الخميس وعادتهم توزيع السجائر على الحاضرين وكنا نعيش فى منزل رجل محترم من قرية عزبة مصطفى وهو الشيخ عبد المنعم. تم تكليفى بهذه الحفائر غصبًا وليس طوعاً! كنت وقتها فى مقتبل العمر حديث التخرج، ولم أتصور أن أترك القاهرة لكى أعيش فى الصحراء وعندما حاولت أن أتهرب من السفر إلى الحفائر أجبرنى المرحوم الدكتور جمال مختار رئيس هيئة الآثار فى ذلك الوقت على السفر، وهدد بتحويلى للتحقيق وخصم راتبى، وبالفعل سافرت وأنا لا أدرى أن هذه الرحلة وتلك المهمة سوف تغير مجرى حياتى وللأبد.
ذات يوم من أيام الحفائر وأنا داخل خيمتى جاء فرج القفطاوى مسرعًا يقول لى إن الريس دكتور يريدك أن تذهب إليه. مشيت إلى المكان الذى يعمل فيه الريس دكتور ووجدته قد كشف عن مقبرة. وطلب منى أن أجلس بجانبه وأعطانى فرشاة، وطلب منى أن أنظف فى وسط المقبرة. وأثناء التنظيف وجدت أمامى رأس تمثال من الفيانس، وبدأت أزيل الرمال عن التمثال وبدأ يظهر رويدًا رويداً. وفجأة وجدت نفسى أقول داخلى: لقد عثرت على حبى، ومنذ هذه اللحظة عشقت الآثار وسافرت إلى أمريكا لنيل درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا.
التقيت مع القفطاوية مرة أخرى عندما قررت أن أحفر فى منطقة مرمدة بنى سلامة بمحافظة البحيرة. والموقع يعود إلى عصر إنتاج الطعام، أو كما يطلق عليه العصر الحجرى الحديث. وكان المؤتمر الأول للمصريات يعقد فى القاهرة وعرف علماء الآثار أن هناك شابًا مصريًا يحفر فى بنى سلامة وخافوا من تدمير الموقع، لذلك ذهبت إلى الجامعة الأمريكية واشتريت كتابًا عن فنون الحفائر. وعملت بالموقع ومعى مساعدى عاطف حسن والريس عبد الوهاب القفطاوى، ومجموعة من العمال القفطاوية، وأبو العلا شعراوى كمصور ورسام. بدأت العمل فى مربع ١٠ أمتار فى ١٠ أمتار. وبدأنا فى إزالة كل طبقة وغربلة الرمال وقد استغرق الحفر ثلاثة أشهر. وكان الريس عبد الوهاب ابن الريس حامد شخصية جميلة، وكان متعلقًا بالعمل معى، وكنت أذهب دائمًا لزيارته فى «عزبة الوالدة» بحلوان.
تعلمت من القفطاوية الكثير، وذلك خلال حفائر جامعة بنسلفانيا فى العرابة المدفونة بأبيدوس وكذلك فى الملقطة بالأقصر. وأذكر أننى ذهبت فى الليل للحمام، وكان يقع فى الصحراء بعيدًا عن المنزل الذى أقيم فيه مع البعثة بحوالى ٢٠٠ م، وأنا داخل الحمام سمعت فحيح حية الكوبرا، فقمت بكتم أنفاسى لمدة طويلة بعدها انطلقت مسرعًا. والحمد لله لم يحدث شىء.. وفى الصباح الباكر أخبرت الريس عبد الغفور بما حدث وبعدها بنصف ساعة جاء وفى يده حية الكوبرا. وكان الدكتور ديفيد أوكونر رئيس البعثة يثق تمامًا فى الريس عبد الغفور الذى كان يدير العمل باحتراف شديد وبأمانة مطلقة.
قام مساعدى مصطفى طلبة، والذى يقوم حاليًا بدراسة درجة الدكتوراه فى ألمانيا بإلقاء محاضرة فى مؤتمر القفطاوية وتحدث عما كتبه عمال قفط أثناء عملهم بالحفائر مع بعثة جورج رايزنر بالهرم والذى وضع لبعثته نظامًا فريدًا. كان رايزنر يطلب من رؤساء العمال القفطاوية أن يدونوا يوميات عمل، مثلهم مثل أى عضو فى البعثة. وقد قام المرحوم رمضان بدرى حسين بترجمة هذة اليوميات ونشرتها جامعة بوسطن باللغة الإنجليزية وتعد شاهدًا حيًا على أعمال البعثة الأمريكية فى الفترة ما بين عامى ١٩١٣ حتى ١٩٤٧ فى مواقع عديدة فى مصر والسودان. وقام مصطفى طلبة بحصر كل ما ذكر عن كشف بئر مقبرة الملكة حتب حرس أم الملك خوفو ومقارنتها بما جاء فى النشر العلمى. كما أولى اهتمامًا بالعوامل الثقافية التى أثرت فى وصفهم للسجل الأثرى. وقد ظهر أن كتابات رؤساء العمال القفطاوية كانت فى غاية الدقة والتفصيل، وتتميز بمعرفة لا بأس بها بالخلفيات التاريخية عن ملوك مصر القديمة. وعرض أيضًا مصطفى طلبة الرسومات التى قاموا برسمها، وتشبه تلك الموجودة فى النشر العلمى للمقبرة. وقد روى لنا كيف فسر رئيس العمال الريس السيد أحمد سيد الآتى: «على عمق مترين فى البئر تغيرت طريقة رص الأحجار فى البئر، حيث وجد عمال البعثة أن كل قوالب الطوب أصبحت ملقاة فى البئر دون وضعها فى مداميك منتظمة، وهو ما فسره الريس من خلفية طبيعة عمله بأن العمال المصريين القدماء يبدو أنهم حينما كان يشرف عليهم أحد من العائلة المالكة كانوا يضعون الأحجار والمونة بنظام، ولكن عندما يغيب عنهم الرقيب كانوا يلقونها ويصبون المونة بغزارة دون تنظيم».
ومن خلال ما كتبه القفطاوية عرفنا أنهم تميزوا بعقلية تحليلية لما واجهوه فى السياق الأثرى وأن مهاراتهم لا تقتصر فقط على أداء المهام البدنية الصعبة. وروى لنا مصطفى أنهم عقب وصولهم لحجرة الدفن أراد اثنان من الأعضاء الغربيين الدخول لحجرة الدفن والبدء فى أعمال الحفائر بها، لكن الريس سيد أحمد حال دون ذلك؛ لأنه كان يرى أنه يجب عليهما الانتظار حتى يأتى مدير البعثة جورج رايزنر من الولايات المتحدة الأمريكية لأن الريس سيد كان مقتنعًا بأن محتويات هذه البئر يستلزمها مهارة خاصة فى التنقيب لا تتوافر فى أى من أعضاء الفريق، لذلك وصف هذا الموقف بأن الريس سيد قد أنقذ لنا هذه المقبرة. شكرًا للدكتورة مارلين دى ماير رئيسة المركز الهولندى وللدكتور بيتر دير مانويليان أستاذ الآثار بجامعة هارفارد ومساعدى العبقرى مصطفى طلبة الذى أتوقع أن يعود إلى مصر وهو أثرى على مستوى عالٍ سيفيد بكل تأكيد الآثار المصرية.