من المعلومات الأثرية المثيرة التى لا يعلمها كثير من الناس، بل وربما أيضا الأثريون والمتخصصون أن أحجار الكساء الخارجى الخاصة بهرم الملك منكاورع، حفيد الملك خوفو وصاحب الهرم الثالث بهضبة الجيزة، عثر على بعضها فى القناطر الخيرية، وأحجار أخرى عثر عليها فى دمياط. ولقد اتصلت بالأثرى تامر العراقى المتخصص فى الآثار الإسلامية، وعمل فى الحفائر الأثرية فى سيناء، ودرس كل الأدلة التى تثبت ضرورة البدء فى الغوص هناك لكى يتم الكشف عن آثار الملك منكاورع. وقد حصلت منه على معلومات مهمة نصوغها فى هذا المقال، الذى يأتى فى ظروف خاصة بعد «الهوجة» التى حدثت حول مشروع ترميم الهرم الثالث.
رصدت كتابات الرحالة المسلمين الأحداث التى مرت عليها الأهرامات خلال عصر الدولة الأيوبية، حيث ذكروا أنه تمت الاستفادة من أحجارها فى بناء السدود والقناطر والقلاع والأسوار. وقد ذكر أن صلاح الدين الأيوبى أمر وزيره، القائد العسكرى بهاء الدين قراقوش، بنزع أحجار الكساء الخارجى للهرم الأصغر هرم الملك منكاورع، أو الهرم الأحمر أو الملون حسب تسميته فى المصادر الإسلامية، وبنى منها القناطر بالجيزة وأماكن أخرى كدمياط، ثانى مدينة بعد القاهرة لكونها البوابة الشمالية لمصر. وقد ذكر عبداللطيف البغدادى فى الإفادة والاعتبار، والداودى فى الدرة العليا، أنه فى عام ٥٩٧ هجرية بنى منها حوالى نيف وأربعين قنطرة خلال العصر الأيوبى وحده. وقد حرص صلاح الدين الأيوبى على تحصين ثغر دمياط والاعتناء به وبناء الأسوار حول المدينة والأبراج حتى ضفتى النيل.
استمرت العناية بثغر دمياط فى عهد خلفاء صلاح الدين الأيوبى، وزادت، حيث كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد عزم فى ذى الحجة عام ٥٩٢ هجرية على «نقض (هدم) الأهرام ونقل حجارتها إلى دمياط، فقيل له إن المؤونة تعظم فى هدمها والفائدة تقل من حجرها، فانتقل رأيه من الهرمين إلى الهرم الصغير وهو مبنى بالحجارة الصوان فشرع فى هدمه» (نقلا عن جمال الدين الشيال، مجمل تاريخ دمياط سياسيا واقتصاديا، سنة ١٩٤٩، صفحة ٢١). أما فى العام ٥٩٣ هجريه جاء عيسى بن الملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبى إلى مصر قادما من دمشق، حيث أمر باستكمال هدم ونزع الكتل الجرانيتية أو الكساء الخارجى لهرم الملك منكاورع، وأمر بنقلها إلى دمياط ورميها فى البوغاز هناك. كذلك استكمال بناء قلعة حربية فى مدينة دمياط وهى قلعة المانجونيل. والتى أشار إليها الملك الصالح نجم الدين أيوب فى وصيته لابنه.
ومن الطريف فى الأمر يحدثنا عبداللطيف البغدادى فى كتابه الإفادة والاعتبار، بأن الناظر لحجارة الهرم الملقاة حوله يظن أن الهرم قد استئصل وتمت إزالته تماما، ولكن إذا نظر للهرم نفسه لم يشعر بأى شىء منه قد نقص إلا كشط بسيط، وأنه قد سأل مقدم الحجارين مازحا إن عرض عليه ألف دينار ذهبى على أن يعاود الهدم فرد عليه بأنه لن يعاود حتى لو تضاعف أجرهم. بمعنى أن معاناة هدم الهرم تفوق كل عائد مادى!، ومعروف أن الهدم هو دائما أيسر من البناء، فإذا كان هدم هرم صغير كهرم الملك منكاورع يسبب كل هذا الشقاء والمعاناة، فما بالنا بما تكبده أجدادنا الفراعنة من مشقة فى بناء الأهرامات وآثارهم الخالدة الأخرى، ولذلك وجب علينا بذل كل غالٍ ونفيس للحفاظ على تلك الآثار.
وفى القرن السابع الهجرى فيذكر أنه وقعت حادثة مهمة لهرم منكاورع، حيث عثر مجموعة من المطالبين- بعثات للتنقيب الأثرى التى كان قد أسسها أحمد ابن طولون للتنقيب عن الآثار والكنوز- على مدخل الهرم ونجحوا فى دخوله والكشف عن ممراته، ويفسر ذلك ما عثر عليه فى عام ١٩٣٨م من كتابات عربية على جدران حجرة الدفن، وبذلك خاب ظنه فى اعتقاده بأنه أول من دخل هرم منكاورع منذ أن بناه صاحبه. ويؤكد ذلك الحدث أبوجعفر الإدريسى، حيث أشار لوجود فتحة الهرم وممرات وحجرات ووصف حجرة الدفن وحسب ما قيل له من شاهد عيان يدعى الشريف أبوالحسن، بأن جماعة المطالبين كانوا قد وجدوا تابوتا أزرق فقاموا بفتح غطائه فوجدوا مومياء لرجل ربما الملك ولم يجدوا حولها أى شىء سوى لوحات ذهبية عليها كتابات غريبة على حد قوله (مصرية قديمة) ولكن لم يستطيعوا فك لغزها.
أما فى بداية عصر المماليك، فقد كان بوغاز دمياط قد تم ردمه تماما بالحجارة عام ١٢٦١م، حيث أرسل السلطان المملوكى ركن الدين بيبرس البندقدارى طائفة الحجارين إلى دمياط لإلقاء الحجارة والكتل الضخمة فى النيل لسد مصب وبوغاز دمياط، وذلك لمنع دخول السفن والمراكب الكبيرة على أثر الحملات الصليبية التى كانت تدخل مصر عن طريق دمياط. وبذلك امتنعت المراكب الكبيرة من الدخول، إنما كانت تنقل محتوياتها من البضائع فى مراكب نيلية صغيرة تسمى الجروم، واشتهر أصحابها بالجرماوية. الأمر الذى أدى إلى اضمحلال ميناء دمياط وازدهر على إثر ذلك ميناء الإسكندرية.
ولعل ما يرجح ذلك الحدث أيضا حسب روايات الصيادين والسكان المعمرين من أهالى مدينتى عزبة البرج ورأس البر المواجهتين لمدخل بوغاز دمياط، حيث يظهر لهم على أجهزة الرادار الصغيرة فى مراكبهم والتى يستخدمونها لملاحقة وتتبع أسراب الأسماك، ما يشبه البلوكات والكتل الضخمة فى القاع، وأصبحوا يتجنبون الصيد فى تلك المنطقة نظرا لتقطع شباكهم، كذلك كثيرا ما ينتشلون أوانى فخارية وأمفورات (أوانٍ ضخمة من الفخار تستخدم للتخزين) غارقة فى المنطقة. وهناك أكثر من واقعة حدثت، ومنها انتشال تيجان أعمدة ورأس تمثال الإله سرابيس. وقد تم إيداع هذه الآثار فى كل من متحف بورسعيد القومى والمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية فى التسعينيات من القرن الماضى وأوائل الألفية الثالثة.
فضلا عن ذلك كانت هذه المنطقة مسرحا لدخول الحملات الصليبية على دمياط وكانت بمثابة حائط صد دفاعى لبوابة مصر الشمالية، ولذلك تم بناء أبراج وقلاع على جانبى النيل، منها قلعة البوغاز الشرقية المعروفة حاليا بقلعة كوبرى الصفارة. كذلك فى الجهة الغربية المقابلة لها تم بناء قلعة البوغاز الغربية أو قلعة عبدالصمد، وعرفت أيضا بطابية الشيخ يوسف فى العصر العثمانى ومكانها فى مدينة رأس البر بشارع النيل، وقد اندثرت معالمها الآن. وكلتا القلعتين اعتبرتا بمثابة الخط الدفاعى الأول لمصر عامة ودمياط، خاصة نظرا لأهمية دمياط فى العصور الإسلامية، والتى كانت المرفأ والميناء الأول فى مصر وأهم ثانى مدينة بعد القاهرة.
لذا سارع السلاطين والملوك والحكام إلى تحصينها بالاستحكامات الحربية، وكذلك تمت إقامة سلسلة من الطوابى والحصون الأخرى بمحاذاة ساحل البحر المتوسط من العريش إلى الإسكندرية، مرورا بقلاع العريش والفرما وأم مفرج والديبة وطابية بورة وأشتوم جمصة وبرج المغيزل وطوابى رشيد والإسكندرية.
ويلى قلعة الصفارة بعزبة البرج ببضع كيلومترات القلعة السلطانية، أو ما تعرف الآن بطابية عرابى بعزبة البرج، حيث أنشأها جنود حملة نابليون بونابرت على أنقاض القلعة السلطانية القديمة المملوكية التى أشرنا إليها، هذا بخلاف برجى السلسلة والذى أشار لهما أيضا الجغرافى والرسام والبحار العثمانى بيرى ريس ١٤٧٠:١٥٥٥م، فى خريطة رسمها لمصب دمياط وحدد موقعهما عند مدخل مدينة دمياط نفسها والسنانية فى الجهة المقابلة أو جيزة دمياط كما عرفت فى العصور الإسلامية.
وبعرض ما سبق نستخلص من المقال من خلال شهود العيان والرحالة والمؤرخين المسلمين بأن هرم منكاورع أو الهرم الملون أو الأحمر حسب مسماه فى العصور الوسطى، كان قد تم نقبه ودخوله بمعرفة الحفارين. الذين قلموا بهدم الكساء الخارجى وكشطه قبل أن يتمكن فيز كما ذكرنا. وهذا فى علم الحفائر الأثرية يعتبر قطعا وحدثا جديدا أثريا طرأ عليه لاحقا فى حقبة أثرية لاحقة ولا يمكن تغييره أو ترميمه أو إعادة تركيب الكساء مرة أخرى فى العصر الحالى.
كذلك لا يمكننا اتهام الحضارة الإسلامية بهدم الأهرام، وذلك لاختلاف العصر، حيث غلب على الفترة الأيوبية وبداية الدولة المملوكية تحديدا توجيه جهود الدولة الاقتصادية ومواردها للجيش لإقامة التحصينات والقلاع الحربية نظرا لوجود مخاطر خارجية تهدد أمن العالم الإسلامى عامة ومصر، خاصة مثل خطر الحملات الصليبية، كذلك خطر المغول فى بداية العصر المملوكى، ولم يكن للأهرامات أهمية اقتصادية وقتها، كما لم يكن المصريون على دراية باللغة المصرية القديمة