بقلم - زاهي حواس
مع صخب المدينة والحياة العصرية والتكنولوجيا المعقدة التي أصبح علينا التعامل معها سواء رضينا أم لم نرضَ؛ تتوق النفس أحياناً إلى الماضي وإلى حياة أهل الماضي وبساطته وجماله غير المكلف، وتكفي زيارة من آن لآخر إلى المدن القديمة مثل الدرعية القديمة أو جدة القديمة، للترويح عن النفس والاستمتاع بحياة لم نعشها وعاشها أجدادنا.
وهناك مدن أخرى أقدم من الدرعية ومن جدة، ومنها مدينة فيد الأثرية والتي تعود إلى بداية العصر الإسلامي. وعلى الرغم من أن أطلال فيد لا تعلو كثيراً عن الأرض فإن زيارتها تملأ النفس راحة لا توصف وأرشّحها لكل إنسان تبحث نفسه المتعبة عن الهدوء والسكينة.
تقع مدينة فيد الأثرية إلى الشرق من مدينة حائل ونظراً لموقعها المتميز في منتصف الطريق بين الكوفة ومكة، ازدهرت المدينة خلال العصر الإسلامي المبكر ونمت وتوسعت بفضل مواردها الطبيعية وكذلك خصوبة أراضيها وصلاحيتها للزراعة ووفرة عيون المياه فيها ورعايتها لطريق القوافل كمحطة تجارية مهمة. والدليل على تقدم مدينة فيد في ذلك العصر هو كثرة عمائرها وتنوعها سواء من حيث الحجم أو الطراز المعماري.
ويعد قصر خراش المَعْلم الرئيسي الأول في مدينة فيد. ويأخذ القصر التخطيط المستطيل، وأبعاده تصل إلى 270 متراً طولاً في 240 متراً عرضاً. وقد شُيِّد القصر في معظمه من حجر البازلت الصلد والذي ساعد على بقاء أطلال القصر في حالة حفظ جيدة إلى وقتنا هذا. ويضم قصر خراش في ركنه الشمالي الشرقي قلعة صغيرة مربعة التخطيط؛ يصل طول ضلعها إلى 40 متراً، وإلى الشمال من القصر توجد مجموعة من العمائر الكثيفة من قاعات وأفنية وغرف متراصة تشقها طرقات وربما كان ذلك جزءاً من قلب مدينة فيد القديمة. وإلى الجنوب الشرقي من قصر خراش تم العثور على بركتين من المياه إحداهما غربية مربعة الشكل، يصل طول ضلعها إلى 37 متراً، والأخرى شرقية مستطيلة التخطيط. هذا إلى جانب العثور على الكثير من الآبار والقنوات المائية بمدينة فيد الأثرية والتي يمتد بعضها ليتصل بالبلدة الحديثة.
وعلى الرغم من ضخامة الموقع الأثري في فيد فإن أعمال التنقيبات العلمية والتي جرت بواسطة علماء سعوديين وآخرين أجانب قد كشفت لنا عن الكثير من المعلومات المهمة، منها وجود مسجد ضخم يعود إلى العصر الإسلامي المبكر في فيد مُقام على مساحة 800 متر مربع، وهي مساحة كبيرة بمقاييس العمارة القديمة. وقد تم الكشف عن بقايا هذا المسجد الأثري في الناحية الجنوبية الغربية من القلعة السابق ذكرها حيث يعد المسجد من أبرز العمائر التي كانت ملحقة بمنطقة القلعة.
كما أسفرت أعمال التنقيب عن الكشف عن الكثير من البنايات ذات الطرز المعمارية المختلفة والتي تناسب وظيفة المبنى. وكان من أهم أعمال تنظيم وتطوير الموقع الأثري الضخم في فيد عمل مسارات خاصة بالزيارة، والقيام بأعمال ترميم واسعة بالموقع خصوصاً العمائر المكتشفة حديثاً.
ولا يزال هناك مساحة كبيرة في فيد الأثرية لم يتم كشفها بعد إلا أنها مسوَّرة بسور يحميها ويجعلها داخل حدود المنطقة الأثرية التي لا يُسمح بامتداد العمران عليها وتحميها القوانين بالمملكة العربية السعودية. والكشف عن عمائر مدينة فيد ودراستها إلى جانب نظم تصريف المياه والري وكذلك من خلال دراسة اللقايا الأثرية، يمكّن الباحثين من رسم صورة واضحة لنمط الحياة في فيد القديمة وعدد سكانها ووظائفهم وأحوالهم الاقتصادية، وأنشطة سكانها. فإذا كان العثور على وثائق مكتوبة لم يتم بعد في مدينة فيد فإن عمارتها تتحدث عن أهلها ممن عاشوا وعمّروا المدينة في بداية العصر الإسلامي.