أضاف الكشف عن مقابر العمال بناة الأهرامات، إلى الجنوب الشرقى من أهرامات الجيزة، صفحات جديدة لتاريخ مصر العظيم. ولعل أهمية هذا الكشف أنه يحدثنا عن حياة المصريين الذين بنوا الأهرامات وكيف عاشوا، وماذا كانوا يأكلون ويلبسون، لقد كشفت لنا هذه الجبانة عن تفاصيل مهمة عن علاقة الرجل بالمرأة فى الطبقات الوسطى والدنيا من المجتمع المصرى القديم. كما أن هذا الكشف أفادنا فى أمرين: الأول أنه أثبت أن المصريين هم بناة الأهرامات، فلا صلة لأية حضارة مفقودة بالأهرامات، وليس لليهود أيضا صلة ببناء الأهرامات. والأمر الثانى أن الأهرام بُنيت بالتقوى ولم تبنى بالسخرة بدليل أن الملك أفسح لقبور العمال مكانا إلى جوار هرمه. ولا سبيل للسخرة أن تبدع فى علم الرياضة والفلك والحساب والهندسة والعمارة. فيمكن للسخرة أن تبنى مبانى شاهقة، لكنها لا يمكن لها أن تبرع فى بناء الأهرامات وما فيها من إبداع وإعجاز.
لقد اتضح لنا من دراسة مقابر بناة الأهرامات أن معظم النساء قد دُفنّ فى مقابر مشتركة تجمع بين الرجل وزوجته فضلا عما أقيم لبعضهن من مقابر مستقلة وهى قليلة. ولقد عثرنا على مقبرتين لامرأتين نُقش اسم إحداهما «ربيت حتحور» على حوض صغير من الحجر الجيرى مخصص للقربان أمام بابها الوهمى. وكانت السيدة ربيت حتحور تعمل كـ «كاهنة الإلهة حتحور». وربما دلت هذه المقبرة على نساء غير متزوجات كان لهن نصيب فى المشاركة ببناء الأهرامات. وكان منهن من عملن فى سقاية العمال أثناء العمل، ومنهن العاملات فى مصانع الجعة أو فى أفران خبز العيش أو مصانع تجفيف السمك أو فى مساعدة الأطباء فى إسعاف العمال المصابين أو المرضى. كذلك قامت النساء بحياكة ملابس العمال.
ويتضح من اسم السيدة ربيت حتحور أنها كانت مرتبطة بالإلهة «حتحور» إلهة الحب والجمال فى مصر القديمة والتى كان لها دور كبير جدا فى الدولة القديمة وعُبدت داخل المجموعة الهرمية، وعُثر على اسمها منقوش على المدخل الجنوبى لمعبد الوادى الخاص بالملك «خفرع» ونعتت بأنها «حبيبة خفرع». بالإضافة إلى وقوفها بجوار الملك «منكاورع»، حيث تمثل نفسها فى نفس مقام الملكة كزوجة وحبيبة وحامية وذلك ضمن تماثيل «الثالوث» الشهيرة الموجودة بالمتحف المصرى بالقاهرة، ومتحف بوسطن للفنون الجميلة والتى كشفها العالم الأمريكى «جورج رايزنر» عندما كان يعمل فى الجيزة فى بداية القرن الماضى. وكان للسيدات اللواتى يحملن لقب «كاهنة حتحور» دور دينى مهم حيث كن يقمن بالطقوس الدينية أمام مقاصير أو معابد أهرامات الملكات التى تقع فى الجنوب الشرقى للأهرامات. وكن يقمن بالرقص الدينى أمام هذه المقاصير لتخليد ذكرى الملكة زوجة الملك التى كانت تتشبه بالإلهة «حتحور» وقد كانت الملكة أو «حتحور» زوجة الملك الحى. ولم يكن اللقب قاصرا على زوجات الموظفين بل والعمال كذلك! حيث عثر فى الجيزة فقط على أكثر من ٩٠ لقبا لزوجات الموظفين والأمراء يحملن لقب «كاهنة حتحور».
سيدة أخرى تسمى «نوبى» كانت مقبرتها أكبر نسبيا وتحمل لقب «كاهنة الإلهة نيت». وقد تبين من جبانة الموظفين بالجيزة وجود نحو ستين امرأة تحمل لقب «كاهنة نيت». حيث لعبت الإلهة «نيت» أيضا دورا مهما فى الدولة القديمة بجوار الإلهة «حتحور». والحقيقة أن دور المرأة فى مصر القديمة كان من أسباب الاستقرار فى مصر القديمة، ولها الفضل الكبير فى بناء الحضارة المصرية القديمة. لقد شاركت المرأة فى بناء الأهرامات جنبا إلى جنب مع الرجل، ولم يكن دورها فقط داخل جدران منزلها كما يعتقد البعض.
لقد قمت بالكشف عن مقبرة لرجل يدعى «كاى حب» وزوجته «حب نيكاوس» وإلى جوار المقبرة، ثلاثة تماثيل فى نيشة صغيرة من ثلاث بلاطات حجرية فى وضع رأسى، يمثل أحد التماثيل الزوجة فى رداء حابك أبيض طويل وشعر مستعار مرسل حتى الكتفين، باسطة يديها على الفخذين، جالسة على مقعد مربع بسيط به موطئ للقدمين، على جانبى المقعد نقش اسمها. ويمثل التمثال الثانى زوجها واقفا فى نقبة قصيرة بشعر مستعار. أما التمثال الثالث الصغير فيمثل امرأة راكعة تطحن الحب فيما اصطلح عليه بـ «تماثيل الخدم» وقد نحت هذا التمثال بعناية فائقة والمرأة عارية الصدر تستر وسطها بما يشبه النقبة كالعادة فى أكثر تماثيل الخدم والأتباع عند العمل والحركة وتتخذ شعرا مستعارا مرسلا إلى أعلى الكتفين، معصوبا على الجبهة بأنشوطة، كما تحلت السيدة بقلادة بسيطة على صدرها. أما حجر الرحى فقد مثل على شكل قطعة مستطيلة وقد صبغ بلون أحمر تقليدا للجرانيـت، مع بقعة صغيرة فى الوسط تمثل الدقيق.
وقد ثار التساؤل حول دور تلك التماثيل وأسلوب حياة الذين دفنوا فى هذه المقابر، كذلك لا نعرف هل كان لهذه الفئات العمالية خدم يؤدون عنهم أعمال المنزل الشاقة؟ بمعنى هل كانوا كسائر الموظفين الحكوميين فى الدولة يقوم على خدمتهم خدم مكلفون؟ وقد يكون هذا التمثال لخادمة تعمل فى خدمة السيدة «حب نيكاوس» أو يصورها هى نفسها تقوم بأعمال المنزل، أو لعل فى إيداع مثل هذا التمثال مع تمثالى الزوجين، تعبيرا عن أمنية شخصية منهما فى خادم أو خادمة فى الحياة الأخرى. ونميل إلى أن هذا التمثال للسيدة نفسها فلا سبيل لزوجة العامل أن تكون لها خادمة تظهر بجسد عارٍ وأحمر الشفاه وما كان لربة البيت أن ترحب بوجود خادمة بهذا الجمال والإثارة فى وجود زوجها!.
وأود أن أشير أيضا إلى أن العامل نفسه لا يستطيع أن يوفر لنفسه خادمة فى العالم الآخر ولذلك يود أن تكون زوجته بجواره فى الحياة والموت وهذا واضح الآن بالنسبة للفلاح المصرى وزوجته فهى بجانبه دائما فى الحقل وفى المنزل وفى تربية الأطفال ولذلك فقد كان للمرأة دور مهم جدا فى المجتمع المصرى القديم.
ويختلف وضع المرأة المصرية فى مجتمع بناة الأهرامات بالجيزة فى الدولة القديمة عن وضعها فى مجتمع دير المدينة بالبر الغربى فى الأقصر فى الدولة الحديثة، وسوف نفرد لها مقالا خاصا. لقد كان عمال دير المدينة فنانين لا نقلة أحجار وكانوا أصحاب منزلة ومن ثم عثر فى قريتهم على تفاصيل حياتهم فى بيوتهم، ومنها إشارات إلى وجود خدم مكلفين بخدمتهم ويتقاضون أجورهم من خزانة الدولة.
ومن أهم ما تم الكشف عنه فى جبانة بناة الأهرامات، دفنتين إحداهما لامرأة من الأقزام طول هيكلها العظمى حوالى متر واحد فقط مع هيكل عظمى لجنين فى بطنها دليل على موتها أثناء الولادة إذ أودى الوليد الطبيعى بحياة المرأة القزمة لازدياد حجمه عن استيعاب حوضها. حيث لا يوجد نص فى أى بردية طبية يشير إلى معرفة المصرى القديم بعمليات الولادة القيصرية. كما لا يوجد أى دليل أثرى من خلال دراسة الهياكل العظمية للنساء يشير إلى عمليات الولادة القيصرية. لذلك فإن نسبة الوفيات فى مصر القديمة بين النساء كانت أكبر من الرجال والسبب المباشر هو الوفاة أثناء الولادة.
أما الدفنة الأخرى فهى لفتاة ماتت فى ريعان الشباب فى حوالى الخامسة عشرة من عمرها وقد دفنت ممسكة بصدفة استخدمت كوعاء للكحل. وكان للكحل منزلة كبرى عند النساء والرجال منذ عصر ما قبل التاريخ حيث عثر الأثرى الألمانى «هرمان يونكر» فى حفائره بمنطقة الكوبانية بأسوان على دفنات ترجع إلى عصر بداية الأسرات، وجد فيها المتوفى مسجى فى وضع القرفصاء وممسكا بمكحلة بيد ومرآة باليد الأخرى.
لقد أتيح لنساء الطبقات العليا فى المجتمع المصرى القديم حرية محدودة فى اختيار المهن والوظائف، والأمر نفسه بالنسبة لنساء الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا. اعتادت الأمهات تعليم بناتهن كل مهام المنزل. وقلت كذلك الفرص أمام الفتيات للارتقاء إلى مرتبة اجتماعية أعلى، على عكس الرجال وخاصة فى السلك العسكرى والحكومى والكهنوتى. وكانت بنات الخادمات فى المنازل يعملن مثل أمهاتهن سواء فى البيت نفسه أو بيت آخر. وتؤكد المناظر المصورة على جدران المقابر عمل النساء فى الأراضى الزراعية لمساعدة أزواجهن، أو فى بيع المنتجات المنزلية بالأسواق. ولقد كانت المرأة العاملة فى بناء الأهرام تعمل فى صناعة الغزل والنسيج والحصير وكن يصنعن ملابس الفنانين من الكتان. وقد اعتقد العلماء أن الهيئة والمظهر الرقيق للمرأة فى المقابر إنما يعبر عن نساء الطبقة العليا غير أن هذه الاكتشافات الحديثة أظهرت أن المرأة العاملة سواء زوجة العامل المصرى الذى نقل الأحجار أو زوجة الفنان الذى رسم المقابر، لم تكن تقل رقة وجمالا عن نساء الطبقة العليا لذلك فنحن نستطيع القول إننا لم نكن نعرف عن الطبقة الدنيا فى مصر القديمة شيئا قبل هذه الاكتشافات.
رفع المصرى القديم المرأة لأعلى منزلة حيث اعتمد استقرار المجتمع المصرى القديم على إيجاد توازن ثابت ومعقول بين دور الرجل والمرأة المختلفين وقد لا يتفق هذا التوازن من غير شك مع نظرية المساواة بين الجنسين فى عصرنا الحالى. ومع ذلك ينبغى ألا ننسى أن نساء يومئذ لم يكن متشبعات بالأفكار الحديثة عن الاستقلال والمساواة وكذلك كان الرجال.