توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أنيس منصور

  مصر اليوم -

أنيس منصور

بقلم - دكتور زاهي حواس

بمجرد أن هلت علينا نسمات شهر رمضان المبارك، وجدتنى أجيش بالذكريات مع أصدقائى الذين رحلوا عن عالمنا، عمر الشريف وأحمد رجب، وقد كتبت عنهما واليوم أكتب عن فارس آخر، وهو أنيس منصور، أسأل الله لهم جميعا الرحمة والمغفرة. وإذا كان الناس يفتقدون أعمالهم وعبقرياتهم في مجالات إبداعهم، فإننى أفتقد الصحبة الجميلة والشخصيات الفريدة التي لن تتكرر. وعزائى أننى سعدت، وأنا أصغرهم سنا، بصحبتهم والتعلم منهم.

سيظل أنيس منصور رمزا مصريا، وأحد صناع الوجدان المصرى الكبار. عرفته لأول مرة وأنا طالب دكتوراة بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية وكنت في زيارة لمصر وذهبت للقاء صديقى كمال الملاخ الذي دعانى للذهاب معه والغداء مع أنيس منصور في منزله بالحرانية! وعندما ظهر على التردد لأن الدعوة لم تأت من أنيس منصور، أكد لى الملاخ أنها دعوة عامة في منزل أنيس منصور. وبالفعل ذهبت مع الملاخ، وهناك قابلت العديد من الشخصيات العظيمة، على رأسهم العظيم توفيق الحكيم، والعديد من الكتاب والصحفيين الذين كان أنيس منصور يستعد بهم لإصدار مجلة أكتوبر. في ذلك الوقت كان جهاز الفيديو والكاسيت وكاميرات الفيديو غير معروفة وغير منتشرة، وكان أنيس منصور يمتلك واحدا، وداخل الغرفة كان توفيق الحكيم يجلس أمام التليفزيون، وهو لا يصدق أنه يمكن أن يشاهد نفسه بالبرنيطة الشهيرة والعصا في التليفزيون المتصل بكاميرا الفيديو، ولذلك بدأ يعبث بشاربه كى يصدق أن ما يشاهده حقيقى!.

جمعتنى بعد ذلك الصداقة بهذا الكاتب العظيم أنيس منصور الذي استطاع، بقلمه، أن يجمع المصريين والعرب على عشق الحضارة الفرعونية من خلال كتاباته وموضوعاته التي نشرت بمجلة أكتوبر وغيرها من الصحف والمجلات، وجعل من الآثار بمختلف موضوعاتها محور الكتابة الصحفية، واهتم بالاكتشافات الأثرية، وكان الراحل العظيم يرحل بنا إلى الماضى البعيد والقريب لنشم عبق التاريخ، ونستمتع بغموض حضارة الفراعنة وآثارهم من حكايات عن لعنة الفراعنة ولعنة المومياوات وأسرار الأهرامات.

كانت مكالمتنا التليفونية تحمل طابع الدعابة، هاتفته ذات مرة بعد أن كتب مقالا يؤيد فيه بقاء رأس الملكة نفرتيتى في متحف برلين بعد أن سرقها من مصر عالم الآثار الألمانى لودفيج بورخارت عام ١٩١٣، وسألته مداعبا هل زارتك نفرتيتى في المنام؟! ففوجئت به يقول لى إنه سقط على قدمة وإنه لايزال يتألم! فقلت له يبدو أن الملكة الجميلة قد صبت لعناتها عليك لرفضك عودتها لمصر! وهنا ضحك بصوت مرتفع وقال لى: «يا راجل سيب آثارنا اللى في الخارج فهم يهتمون بها أكثر منا».

سافرت مع أنيس منصور إلى العديد من بلاد العالم، وكانت صحبته جميلة ومسلية لأقصى درجة، وكنا نتجادل ونناقش العديد من الموضوعات، وكان أهم ما يبحث عنه وهو مسافر شراء كتاب جديد أو شراء أحلى وأجمل الملابس لزوجته السيدة الفاضلة رجاء، والتى كانت حبه وحياته. وعندما كنت اتصل به لكى يستعد للسفر معى كان يقول لى: «لازم تصريح من رجاء». وقد اتفقت مع الصديق والناشر الكبير إبراهيم المعلم وصديقى عمرو بدر، الخبير السياحى، على عمل صالون باسم أنيس منصور، وكان إبراهيم المعلم هو الممول الأول لهذا الصالون الذي كان يحضره العديد من الكتاب والعلماء. وكان يرغب في نشر ما كان يحدث من نقاشات وحوارات في هذا الصالون، الذي كان أنيس منصور يتحدث فيه ويحكى ذكرياته مع الرئيس السادات وعن دوره في السلام وعن عشقه لمصر.

وقد حضرت مع أنيس منصور مراسم تأبين الراحل كمال الملاخ وقال أنيس إن كمال كان يصحو من النوم في الفجر، ويظل يكتب حتى الصباح وهذه هي فترة الإبداع، وتحدث عن كتبه وعلاقته بكمال الملاخ وعن «المقالب» التي كانوا يدبرونها في فترة الشباب. كان الملاخ يعمل مع أنيس في أخبار اليوم ومولعا بالفراعنة والآثار، وحدث أن قام أنيس منصور بالتحدث معه تليفونيا، مدعيا أنه خبير باليونسكو، وأنه يود أن يقابله في مينا هاوس، وذهب الملاخ إلى مينا هاوس وظل ثلاث ساعات ينتظر خبير اليونسكو المزعوم.

كان أنيس منصور، وبدون قصد، سببا في أن أستقيل من العمل بالآثار لمدة عام كامل! فقد حدث أن كشفت عن مقابر العمال بناة الأهرام، وداخل إحدى هذه المقابر تم العثور على كوة بها خمسة تماثيل رائعة لشخص اسمه إنتى- شيدو وتمثله في مراحل عمريه مختلفة. وقد اتفق معى وزير الثقافة، فاروق حسنى، في ذلك الوقت، على عدم الإعلان عن هذا الكشف حتى يمكن استغلاله أحسن استغلال، وأن يكون الإعلان في التوقيت المناسب. وتصادف أن أقام إبراهيم المعلم حفل عشاء على شرف الكابتن صالح سليم، ودعى العديد من الشخصيات السياسية والثقافية والرياضية، وجلست إلى جوار أنيس منصور نتحدث عن الآثار، وعن الاكتشافات الحديثة، وقلت له سوف أخبرك عن كشف عظيم بعد أن تعدنى بألا تنشر شيئا عنه. وبالفعل وعدنى أنيس منصور وقصصت عليه قصة الكشف عن تماثيل إنتى- شيدو. ومرت الأيام، وطلب منى الراحل العزيز محمد غنيم، رئيس العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة في ذلك الوقت، أن ألقى محاضرة للأجانب داخل مقر العلاقات الثقافية الخارجية، ودعى لهذه المحاضرة أغلب السفراء الأجانب في مصر، ونشرت الصحف إعلان أننى سوف ألقى محاضرة أمام الدبلوماسيين الأجانب عن الاكتشافات الأثرية الحديثة، ولذلك اعتقد أنيس منصور أننا قمنا بالإعلان عن الاكتشافات الأثرية الحديثة وعن تماثيل إنتى- شيدو لذلك بدأ في كتابة سلسلة مقالات بعموده اليومى عن الاكتشافات الأثرية وعن تماثيل إنتى- شيدو، ودعى الرئيس مبارك للحضور لزيارة هذا الكشف، خاصة أن السياحة في ذلك الوقت كانت تعانى من مشاكل الإرهاب، وفى ذلك الوقت دبت الغيرة في صدر المسؤول عن الآثار، ولم يكن له أي تاريخ يشفع له بتولى مسؤولية الآثار، ولذلك كان يطلب وزير الثقافة شاكيا مما يكتبه أنيس منصور، متهمنى بأننى مصدر ما يكتبه في عموده اليومى!.

وحدث أن جاء الرئيس مبارك ومعه الرئيس القذافى لزيارة منطقة الأهرامات وزيارة الكشف الجديد مثلما طالبه أنيس في مقالاته. وقال لى الوزير فاروق حسنى إنه من الصعب على الرئيس أن يذهب إلى مقابر العمال لأن الدخول للكشف عن طريق نزلة السمان، ولم تكن شوارع القرية مؤهلة لزيارة الرئيس، لذلك اتفق على أن يتم عرض التماثيل المكتشفة على منضدة بجوار تمثال أبوالهول. وكان هذا اليوم هو ٧ يناير، إجازة أعياد الميلاد لإخواننا الأقباط، وكانت أمينة المخزن آمال صمويل في إجازة العيد، ولا يمكن فتح المخزن بدونها لأن ما هو موجود بالمخزن من آثار هو عهدتها الشخصية. ولذلك أرسل رئيس مباحث الآثار سيارة وأحد المخبرين لكى تحضر الدكتورة آمال صمويل لفتح المخزن. وأثناء الزيارة كنت أقوم بالشرح، وكان الرئيس القذافى يضحك ويقول للرئيس مبارك إن من شيد هذه الآثار هم السودانيون!، وفى نهاية الزيارة وصلنا إلى أبوالهول ووجدت التماثيل المكتشفة حديثا موجودة على منضدة، وبدأت أشرح التماثيل للرئيس، وقتها قلت مزحة جعلت الرئيسين يضحكان. وبعد انصراف الزيارة قامت الدكتورة آمال صمويل والمفتشون والمخبرون بنقل الآثار إلى المخزن مرة أخرى. بعدها فوجئت بالعقيد عزيز مقلد في ذلك الوقت يدخل إلى مكتبى ليخبرنى أن أحد التماثيل التي كانت معروضة في الزيارة تمت سرقته، وهو عبارة عن تمثال صغير جميل جدا ارتفاعه حوالى ٧ سم. هنا وجدها رئيس الآثار فرصة للانتقام فقام بإصدار قرار بجرد المخزن، وفى نفس الوقت قرار آخر بنقلى إلى منطقة آثار المطرية، وطبعا تم ذلك بموافقة الوزير فاروق حسنى نتيجة إصرار رئيس الآثار على نقلى لأن الغيرة داخله كانت شديدة جدا. ولم أجد أمامى إزاء هذا الموقف إلا أن أكتب استقالتى من العمل بالآثار كى أنجو بنفسى من هذه المؤامرة. بعدها عملت أستاذا زائرا بجامعة لوس أنجلوس لمدة ستة أشهر. وقبل سفرى اتصل بى أنيس منصور ومشينا معا على النيل، وقال لى إنه السبب في كل ما حدث لى.

وبعد عودتى من أمريكا بدأت التدريس بالجامعة وتصادف أنى كنت جالسا بأحد الفنادق، وجاء إلى ضابط من المطار ليخبرنى بأنهم كشفوا المؤامرة، وأن التمثال سرقه أثرى ومخبر وهرب إلى ألمانيا، وبعد ذلك جاء رئيس آخر للآثار، وطلب منه الوزير فاروق حسنى أن أعود إلى موقعى كمدير عام آثار الأهرام. بعدها اعتدت على التحدث مع أنيس منصور بعد نشر أي مقال عنى أو عن عملى لأقول له: «ربنا يستر مش من لعنة الفراعنة بل من لعنة عمود أنيس منصور».

كان أنيس منصور يقيم مأدبة إفطار في رمضان يدعو إليها كل أصدقائه. وقد تحدثت في برنامج تليفزيونى في رمضان وعن أنيس منصور، وقلت إننى لم أحتفل مع أنيس منصور هذا العام بعيد ميلاده لأننى كنت مسافرا خارج البلاد، وقلت أتمنى أن يعيش هذا العملاق ألف عام مثل أمنيات الفراعنة للأحباب، لكن طالبت بأن يكُف أنيس منصور عن المطالبة ببقاء آثار الفراعنة في متاحف أوروبا وأمريكا، وأنذرته مازحا بعواقب لعنة الفراعنة. وقد كتب أنيس منصور كتابا عن لعنة الفراعنة، حدثنا فيه عن القصص المثيرة الشيقة وعن الحوادث التي تعرض لها علماء الآثار وفُسرت على أنها لعنة الفراعنة، وقد حدث أن نشر في عموده مواقف عن ظهور مرض جلدى على جسد كمال الملاخ، وقال إن زاهى حواس يدخل المقابر المظلمة والسراديب والأنفاق، وإنه يخاف من لعنة الفراعنة التي حتما ستصيبنى! وكان ابنى شريف يقرأ الأهرام يوميا، وفوجئت به يوقظنى من النوم مبكرا ومعه جريدة الأهرام، وهو في غاية الانزعاج مما كتبه أنيس منصور.

تذكرت أول حادثة كانت لأنيس منصور وكمال الملاخ عام ١٩٥٤، حيث كان الاثنان يتناولان طعام الغداء بأحد مطاعم القاهرة، وقتها اتصل رئيس الحفائر الريس جرس ينى بكمال الملاخ ليبلغه عن الكشف عن مراكب خوفو. وكان الملاخ في ذلك الوقت هو الأثرى والمهندس المسؤول عن إزالة الرمل والأحجار من جنوب هرم خوفو، وانطلق الملاخ ومعه أنيس منصور بعربة الأخير إلى الهرم وفى منتصف الطريق انفجر موتور السيارة.

ومن أجمل القصص مع أنيس عندما ذهبنا إلى ڤيرونا في إيطاليا ودخلت منزل روميو وچولييت، وكان أنيس يقف في البلكونة ويُمثل چولييت، وأنا تحت أُمثل روميو، وكان الحديث بيننا لو كُتِب لأصبح فاصلا فكاهيا في مسرحية هزلية. لا أنسى لحظة وداعه، ذهبت أنا وعمرو بدر إلى المستشفى وجلس وهو لا يتكلم لكن دموع الوداع في عينيه. كان أنيس منصور موسوعة متنقلة، وكان عظيما بمعنى الكلمة، وسوف تظل كلماته محفورة في قلوب كل الناس.. أنيس منصور أسطورة الكتابة البسيطة عن أصعب الأشياء.

صديقى أنيس منصور، أفتقدك كما أفتقد عمر الشريف وأحمد رجب فرسان الثقافة والفن.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنيس منصور أنيس منصور



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon