فقدت مصر آخر عمالقة الصحافة والإعلام من الزمن الجميل، رحل مفيد فوزى بعد سنوات طويلة من العطاء. آمن بأن الكلمة أمانة، وبأنها أقوى من الرصاص، يمكنها أن تهدم أو أن تبنى، المهم كيف نصيغها جلية ومباشرة وبدون رتوش. لم يجامل ولم يداهن أحدًا؛ فقط كان يقول ما يؤمن به ويقول دائما أنا مسؤول عما أقول وأكتب، وليس عن ظن الآخرين بى. أغضب مفيد فوزى بجرأته وصراحته رؤوسًا وقامات في كافة القطاعات السياسية والثقافية والفنية، لكنه لم يتنازل ولو ليوم واحد عن أسلوبه المميز في الكتابة وفى الحوار.
عندما سُئل مفيد فوزى في تسعينيات القرن الماضى عن جيل من المطربين والمغنّين الجدد ولون جديد (وقتها) في الغناء، قال بصراحته: «بالنسبة لى توقف الزمن عند عبدالحليم حافظ الذي لا يزال رغم رحيله يحيا تحت جلدى ويتربع في قلبى على عرش الغناء، ولا يوجد مُغنٍّ يطربنى بعد عبدالحليم!». عاتبته ذات يوم عندما أغضب أحد الفنانين وكان صديقًا لى، فكان رده «زاهى! أنا كاتب مش مزين!». حاور عذراء المسرح والسينما المصرية أمينة رزق، وفجأة وبدون مقدمات سألها: «حبيتى يوسف وهبى؟».
كنا ننتظر برنامجه حديث المدينة ونستمتع بحواراته مع كل طوائف الشعب المصرى، بعد أن حوّل مفيد فوزى حديث المدينة إلى مرآة تكشف عن أصالة شعب فُطِرَ على أن يستمتع بالحياة مهما كانت قسوتها ومرارتها، بحلوها ومرها.
كنت مواظبًا على قراءة ما يُكتب في الصحافة، سواء باسمه أو باسم مستعار، ودون أن تكون هناك أي معرفة شخصية به، وفوجئت في يوم من الأيام به يكتب في صباح الخير «زاهى حواس!!!»، لم أفهم ما يقصد بعلامات التعجب الثلاثة التي وضعها بعد اسمى. وبالمصادفة قابلته عند مدخل فندق الماريوت، وسألته: أستاذ مفيد، ماذا تقصد بعلامات التعجب التي وضعتها بعد اسمى؟ فقال: معناها نجم نجم نجم! وتوطدت صداقتى بمفيد منذ ذلك اليوم، واكتشفت أن لنا أصدقاء مشتركين، وهم أحمد رجب العملاق صاحب القلب الطفولى البرىء، وأنيس منصور فارس في بلاط صاحبة الجلالة، وعمر الشريف الأمير الوسيم متعدد الثقافات الذي علمته الحياة والتجارب ما يكفى لكتابة مجلدات عنه. كنا نتقابل كلما سنحت الفرص، بل كان مفيد أستاذًا في ترتيب اللقاءات وكان يتصل على التليفون ليقول كلمات قليلة «زاهى! وحشتنى! نتقابل إمتى؟».
عانى مفيد فوزى بسبب جرأته وصراحته التي أوقعته ليس فقط في مطبات، ولكن مصائب وشدائد وصلت إلى حد فصله ومنعه من الكتابة، وهى مهنته وصنعته وحياته التي لا يعرف غيرها. وعندما ذهب ليقابل الأستاذ مصطفى أمين علّه يجد عنده حلًا، وما إن دخل عليه مكتبه حتى وجده يضحك ويقول له سأعطيك نصيحة إذا ما أردت النجاة من حزب أعداء النجاح، وهى أن تنجح بالتقسيط! انجح بالتقسيط! كانت نصيحة مصطفى أمين لمفيد فوزى لكى ينقذه من حزب أعداء النجاح، لكن مفيد ظل هو مفيد من بداية حياته وإلى اليوم الأخير لم يتغير، محاربًا شجاعًا يدافع عن بلده ولا يبالى بحجم خصمه. وكانت معركته الأخيرة ضد جماعة الإخوان وهم على رأس السلطة، لدرجة أن البعض تصور أن مفيد يستعد للهجرة إلى كندا!.
قدم مفيد فوزى للتليفزيون برامج ناجحة كمعد وكاتب، حتى وافق على أن يقدم هو بنفسه البرامج التي يكتبها ويعدها، فولد حديث المدينة عملاقًا، وأصبح البرنامج الحوارى رقم واحد في مصر، على الرغم من أن مفيد كسر في هذا البرنامج كل التقاليد، بل وكل ما يتعلمه المذيع أو المحاور للوقوف أمام الكاميرا. كان يظهر وظهره للكاميرا، مرتديًا قميصًا مشجرًا بأكمام قصيرة في الصيف أو بجاكت كاجوال أو بلوفر في الشتاء ولم نره في يوم يرتدى رابطة عنق؟ وعندما سُئل قال: أنا لست العملاق محمود سلطان، أو حلمى البلك! لا يمكن أن أكون مثلهم. أنا فقط مفيد فوزى محاور يريد أن يعرف مثله مثل المشاهد أمام الشاشة.. رابطة العنق تخنقنى وتشعرنى أننى لست حرًا.
وجدته في يوم يسألنى مباشرة: زاهى، إمتى حنتقابل في حديث المدينة؟ وأعطيته موعدًا للقاء عند سفح الأهرامات لتكون خلفية عظيمة للقائنا في برنامجه حديث المدينة. وقبل اللقاء بيوم وجدته يتصل بى ليخبرنى أنه وصل إلى الأهرامات وفريق التصوير. وقلت له مفيد موعدنا غدًا وليس اليوم؟ ضحك، وقال: بل أريدك أن تأتى الآن. كان لا يحب أن يعطى من يستضيفه فرصة لترتيب أفكاره أو الاستعداد له، كان يريد أن يصل إلى أعماق من يحاوره ويأخذ منه الحقيقة دون زيادة أو نقصان. تقابلنا في حديث المدينة ووجدته فجأة وبدون مقدمات كالعادة يسألنى: هل تطمع في منصب فاروق حسنى؟! كنت في ذلك الوقت مديرًا للآثار وفاروق حسنى هو وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للآثار، أي رئيسى. وكانت بينى وبين فاروق حسنى في ذلك الوقت سحابة صيف لاختلاف وجهات النظر في أمر لا أذكره الآن، لكن سؤال مفيد وضعنى في موقف حرج، وكان من الممكن أن يحوّل سحابة الصيف إلى أزمة بينى وبين الوزير. المهم أننى أجبت مفيد ببساطة وتلقائية بأننى أثرى أعشق العمل بالحفائر والكتابة والنشر العلمى، وأجده أهم من منصب وزير الثقافة، وأضفت أن فاروق حسنى نجح كوزير للثقافة واستطاع أن يصل بالثقافة المصرية إلى العالمية، لأنه أحاط نفسه بالعمالقة في كل القطاعات التي يرأسها ولم يختر الضعفاء، بل الأقوياء، ولم يخشَ من أن يطمع أحد في منصبه، لأنه يثق في إمكاناته ونجاحه في إدارته للثقافة يشهد له بها الجميع.
رحل مفيد فوزى عن دنيانا بعد أن صال وجال وكان في أوقات كثيرة هو حديث المدينة والبلد كله بمقالاته الجريئة وحواراته المتميزة مع نجوم المجتمع، ومع الناس العادية التي نقابلها ولا نعرفها، فكشف لنا مفيد عن عبقرية مصر المتأصلة منذ آلاف السنين. كان مفيد على المستوى الإنسانى هو نفسه الشخص الذي يقف أمام الكاميرات وخلف المقالات الصحفية. كان عاشقًا للصحبة والونس، عظيمًا في صمته وهو يصغى لمن حوله وينظر مباشرة في وجه من يتحدث وبإصغاء يُشعر المتحدث بأهمية ما يقول. وكان عظيمًا عندما يتحدث يصيغ الكلمات وكأنها جواهر، ويقف عند الأحرف الأخيرة من الكلمات، لكى يطمئن أن المعنى قد وصل لمن حوله.
مر وقت دون أن أسمع صوته، وعندما بادرت بالاتصال به لم يرد وكنت عائدًا من الخارج وأحسست أن مفيد ليس بخير وأن هناك أمرًا عضالًا منعه من الاطمئنان علىّ كعادته بصفته الأخ الأكبر. وعلمت أن مفيد يرقد في أحد المستشفيات، وذهبت على الفور لزيارته وأنا عازم على أن أسرى عنه وآخذ بيده في محنته، لكنى وجدته راقدًا بغرفة العناية المركزة جسدًا تنسحب الروح منه. وبصعوبة نظر إلىّ وقال لى: «أخرجنى من هنا!»، كررها مفيد ثلاث مرات، وشعرت بأن الأرض تهتز تحت أقدامى، فجلست على أقرب كرسى وجدته وقد أخبرنى الطبيب أنهم يفعلون كل ما يستطيعون فعله له، وأنه بين يدى الله.
والآن وبعد رحيل الصديق والأخ، لا أعرف هل أنا نادم على رؤيته وهو واهن يُخرج صوته بصعوبة، وقد تعودت على رؤيته عملاقًا كلماته رنانة، أم كنت محظوظًا بلقائه في أيامه الأخيرة قبل رحيله؟.
سيظل مفيد فوزى يحيا بيننا بما غرسه في قلوبنا من أشجار وارفة وورود وأزهار. سيظل يحيا تحت الجلد كما كان يقول بكتاباته ومقالاته.. سيبقى خالدًا مع العمالقة الذين أثروا حياتنا، وسيبقى أجمل وسام حصل عليه مفيد في حياته هو حب المصريين وثقتهم فيه.