عندما سئل الشاعر والأديب الفرنسى فكتور هوجو عن مقياس نهضة الأمم أجاب: «إن فن العمارة هو المرآة التى تنعكس عليها ثقافات الشعوب ونهضتها وتطورها». وفى تعريفه لمعنى الحضارة يقول الكاتب والفيلسوف الجزائرى مالك بن نبى: «الحضارة ليست كومة عشوائية، بل إنها بناء وهندسة معمارية». وعلى مدى التاريخ الإنسانى الممتد لآلاف السنين يكون البحث دائمًا عن بقايا ما شيده الإنسان وصنعه بيديه، لكى يتم من خلاله التأريخ لحضارته وثقافته. ولو توقفت أمة من الأمم عن البناء والعمارة فلن يكتب لها تاريخ ولن يكون لها موقع بين الأمم. هذا هو ردى على أصحاب الدعاوى التى تقول بأن ما شهدته مصر وتشهده منذ سنوات من انطلاق العمران هو سبب مشكلتها الاقتصادية الحالية، وبالتالى فإنهم يدعون إلى الإبطاء أو حتى التوقف عن البناء والعمران إلى حين أن يتحسن الوضع الاقتصادى الحرج الذى تعانى منه مصر. ولكونى لست رجل اقتصاد ولا أعرف فى لغة الأرقام، ولكن كأحد المتخصصين فى تاريخ الحضارات أؤكد أن استمرار العمران والبناء دائماً ما كان هو دليل على حيوية الشعوب، وأن ما يتم بناؤه اليوم لن يفقد ثمنه أو قيمته بمرور الزمن، بل العكس هو الصحيح.
كان الحديث فى مقالى السابقين عن العاصمة الجديدة لمصر، وكيف يجب علينا النظر إلى هذا المشروع باعتباره المشروع القومى لمصر فى الألفية الثالثة، وأن يتم الانطلاق منه إلى مرحلة جديدة فى فن وفلسفة العمارة فى مصر فى المستقبل. ولتفسير ذلك علينا أن نوضح فى البداية أن ليس كل بناء عمارة وليست كل عمارة فن، والفيصل كما اتفق العلماء والباحثون المتخصصون فى فن العمارة هو الجمال. فالعمارة يجب أن تكون جميلة لكى تسمى عمارة. والجمال يبدأ بالتصميم والمظهر الخارجى أو شكل المبنى من الخارج، ولونه وملمسه وتناغمه مع من حوله من عمائر وباقى عناصر البيئة المحيطة، سواء كانت صحراء سهلية أم جبلية أم غابات أو مساحات خضراء. كذلك يكون الجمال فى التصميم الداخلى وتوفير المساحات المناسبة لأداء وظيفة المبنى، وسد حاجة الإنسان بالشكل المريح. وبتطبيق تلك المعايير نفاجأ بحجم الكارثة التى أصابت العمارة فى مصر فى الحقب الماضية بعد أن تغلغلت العشوائية وغياب التنظيم والتخطيط فى عمارة بلادنا التى هى سيدة العالم القديم فى هذا الفن والمجال.
ومن هنا نرى أهمية الانطلاق من العاصمة الجديدة لوضع مخطط محكم لشكل العمارة فى كل جزء من أرض مصر فى الريف والمدينة والمناطق الجديدة فى صحرائنا الممتدة. نريد أن نبدأ فى عصر إحياء العمارة المصرية، وتشجيع المعماريين المصريين على الإبداع فى ذلك المجال مثلما فعل أجدادهم خلال العصور القديمة والوسطى والحديثة. وقد يسأل سائل وما الإبداع فى العاصمة الجديدة وهى أبراج وأحياء سكنية بتصميمات غربية معروفة ومكررة؟، والحقيقة أن من يعتقد فى ذلك فقد حبس نفسه فقط فى إطار التصميم ولم يتجاوزه، بمعنى أن العمارة فن يؤثر ويتأثر لأنه مثل باقى الفنون من صنعة فنان يتأثر بشخصيته وهويته وثقافته، ثم بذوقه الفنى الذى لا يأبى عليه أن يتأثر بفنون العمارة المختلفة، سواء الشرقية أو الغربية.
أعود إلى زيارتى للعاصمة الجديدة، والتى نقلت بعض من مشاهداتى بها فى مقالات سابقة. وكنت خلال الزيارة أتجول بين أحياء العاصمة بصحبة المهندسين والمعماريين الشبان، سواء ممن يقومون على التصميم أو التنفيذ أو الإشراف، وكانت الروح المصرية موجودة فى كل ركن وزاوية بأحياء العاصمة المختلفة، حتى فى تلك العمائر ذات الطابع الكلاسيكى اليونانى أو القوطى الوسيط أو الطراز الإسلامى. ولكن فجأة وجدت نفسى داخل مدينة الفنون والثقافة، وهى جزء رئيسى من العاصمة الجديدة، ولا أقول بأنى انبهرت من جمال العمارة وجمال التصميمات المعمارية، بل إننى تشوقت إلى أن يتم افتتاح هذه المدينة بعد يوم أو يومين فقط من زيارتى، وأن أراها مفعمة بالحياة والعمل حتى يراها ويستمتع بها كل مصرى. وقد لا تكفى الكلمات لوصف مدينة الفنون والثقافة التى يجب أن تراها العين، وأن نتجول بشوارعها ونمر بعمائرها لكى نرى جمالا ما يمكن للإنسان صنعة بالحجر.
تم بناء مدينة الفنون والثقافة على مساحة ١٢٧ فدانا- حسب ما شرح لنا أحد شباب المهندسين المرافقين لنا والمسؤول عن التنفيذ فى الموقع. وقد أكد لى أن العمل بدأ فى عام ٢٠١٩ بالمدينة، وتم الانتهاء منه بعد ٣٠ شهرا فقط من بدء العمل الذى يجرى بالمدينة على مدار اليوم بنظام الورديات، وبالتالى كان التخطيط والتنظيم هو أساس سير العمل لكى يخرج فى النهاية بشكل متناغم تشعر بأن معماريا واحدا وعاملا واحدا هما من قاما بالبناء وليس فرق من المهندسين والعمال لا يرى أحدهم الآخر!.
تضم مدينة الفنون والثقافة المسارح وقاعات العرض والمكتبات وقاعات المعارض الفنية المختلفة وكذلك المتاحف لمختلف أنواع الفنون القديمة والمعاصرة، والمفاجأة أنه سيكون هناك متحف حديث للشمع بأحدث التقنيات العالمية المستخدمة فى متاحف الشمع الشهيرة. وتضم المدينة قاعة احتفالات لـ٢٥٠٠ شخص مجهزة بتقنيات العرض والصوت والإضاءة الحديثة، بالإضافة إلى مسارح صغيرة، يستوعب كل مسرح ٧٥٠ شخصا، وبالتالى فهو ليس بمسرح صغير، حيث هناك مسارح أخرى تسمى مسارح الجيب سعة ٥٠ شخصا فقط.
والمكتبة المركزية بالمدينة تتسع لستة آلاف زائر، وبالتالى فهى من أكبر المكتبات بمصر والشرق الأوسط. وبمدينة الفنون والثقافة مركز مهم يسمى مركز الإبداع الفنى لشباب المبدعين من مصر والعالم كله. هذا بالإضافة إلى أحدث قاعات العرض السنيمائى المتصلة بالأقمار الصناعية وقاعات للتدريب واستوديوهات للتصوير وأخرى للتسجيل وغيرها التى تخدم مجالات مثل صناعة السينما. أما عن البناء الذى يكاد يكون هو محور مدينة الفنون والثقافة فهو دار الأوبرا المصرية الجديدة بالعاصمة وعن ذلك البناء وتجهيزاته الضخمة غير المسبوقة نحتاج إلى صفحات للحديث عنه ولكن يكفى أن نعرف أننا أصبحنا نملك بمصر أحدث وأفخم دار أوبرا عالمية مؤهلة لاستقبال كل أنواع فنون الأوبرا وبطرق عرض وتكنولوجيا متقدمة.
هذه العمائر المختلفة فى وظائفها تم تصميمها بعدد كبير من التصميمات المعمارية، ولكن بأسلوب متناغم وكأن المدينة كلها لوحة فنية بديعة. تحول الألوان والملمس والإضاءة الخارجية بالليل عمارة المدينة إلى عمل فنى عبقرى امتزجت فيه الروح المصرية الأصيلة بجذورها الفرعونية واليونانية الرومانية والقبطية والإسلامية.
والسؤال المهم هو هل سيكون لهذه المدينة دور فى الفنون والثقافة المصرية؟، وهل تعطينا هذه المدينة الأمل فى تعديل الذوق العام؟، والعودة إلى عالم نفتقده من انتشار الثقافة والفنون الجميلة بين طبقات الشعب المختلفة، خاصة الأجيال الجديدة الصغيرة التى لم تعد للأسف قادرة على تذوق ألوان من الفن الجميل نتيجة ما نشهده منذ سنوات من انحراف للذوق الفنى عند قاعدة عريضة من الشباب أو ما يسمى للأسف بـ «جيل المهرجانات»؟، هذه الأسئلة كلها تتوقف على شىء واحد وهو منظومة إدارة هذه المدينة العملاقة وتسويقها لكل طبقات المجتمع. بمعنى أننا لو نجحنا فعلاً فى ربط تلك المدينة بالناس فى مصر بمختلف ثقافاتهم وأذواقهم ولم نوقفها فقط على المبدعين من طبقات معينة فإن الناتج والمحصلة من بناء المدينة سيكون بالطبع أعم وأنفع وأشمل. ولذلك أتمنى من كل قلبى أن يصل الطفل المصرى المبدع إلى تلك المدينة حتى ولو كان يعيش فى قرية بأقصى مدن الصعيد أو الدلتا لكى يجد لنفسه مكاناً ينمى فيه موهبته. مكان يعطيه الفرصة الكافية لكى لا ينضم بعد ذلك إلى سرب الطيور المهاجرة.
إننى لا أقول إننا يجب علينا الالتفاف على دور قصور الثقافة بالمدن والمحافظات فهى الموكلة بالكشف عن المبدعين أولاً ثم توجيههم التوجيه الصحيح، ولو أن هناك موهبة مبدعة تحتاج إلى العمل بمدينة الفنون والثقافة فلابد أن يكون هنا فى مصر رعاة للفنون والثقافة، وهم وحدهم القادرون على صناعة الفرق.
لقد تأسفت كثيراً وأنا أتجول بمتاحف ومسارح وقاعات العرض بالمدينة ولا أجد اسم راع واحدا لمتحف من المتاحف أو لفن من الفنون أو حتى لقسم بمكتبة. إن نهضة الفنون والثقافة ليست مسؤولية حكومة ولكن مسؤولية مجتمع يعتمد على رعاة للفنون. والرعاة ليسوا هم فقط الأثرياء من أصحاب المليارات أو الملايين؟، ولكن هم أيضاً من الطبقات الوسطى فى المجتمع التى فى مقدورها التبرع لنوع من الفنون أو رعاية أطفال مبدعين أو حتى تبنى قطعة فنية واحدة بمتحف من المتاحف. ويكفى زيارة واحدة لمتحف من المتاحف الأجنبية، سواء الكبيرة أو الصغيرة، لإدراك دور الرعاة فى الخارج فى نهضة الفنون والثقافة.
لقد قامت الدولة المصرية بدورها على الوجه الأكمل ووضعت الأساس، بل والبنيان كاملاً، وعلى المصريين الآن أخذ المبادرة وقيام المجتمع بدوره لكى تتحول تلك المبانى الجميلة إلى منارات إشعاع فنى وثقافى. ومن ذلك المنطلق سيقوم مركز زاهى حواس للمصريات بمكتبة الإسكندرية بتبنى مبادرة تدعوا لمساهمة المجتمع المصرى، وكذلك عشاق الحضارة المصرية بفنونها وثقافتها فى بث الحياة بمدينة الفنون والثقافة.