وفاء محمود
استشراف الخطر الذى يحيق بالوطن، فرض عليّ فى مقالى عن فن الشيخوخة أن يصب هذا الفن فى صحة الوطن، لتتعافى الدولة، وتتجه البوصلة الوطنية
ناحية لم الشمل على قواعد اجتماعية وسياسية واقتصادية حديثة، ليضع الشيوخ جل فنهم فى إقرارها، لما لهم من خبرة وعلم لإصلاح الدولة، فتكفل السعادة لكافة المواطنين من شيوخ وشباب وأطفال، فإن غرقت مركب الدولة فلن يفيد أى فن لإسعاد أى أحد! خاصة الشيوخ من سيموتون كمدا على فشلهم فى حمايتها!
«الدولة» ثمرة كفاح الإنسان لتحقيق السعادة، فهى المرحلة العليا لتطور المجتمع ونموه حجما وكيفا، فهى الحاضنة التى تكفل للفرد إنماء ملكاته وقواه، وتنسيق جميع مواهبه لتكوين شخصيته المتكاملة، فى ظروف ملائمة للحياة المتمدينة المركبة المتعددة الاحتياجات، فتوفر الدولة الحياة الفاضلة للأفراد لذا اجتهد المفكرون لوضع الأسس والمعايير للتوفيق بين احتياجات الفرد، وحقوق المجتمع، لإشباع رغباتهم جميعا فى الحياة الأكثر تمدينا، لهذا أصبح الإنسان حيوانا سياسيا!
لا يستطيع الإنسان الفرد أن يعيش بلا دولة، إلا إن كان حيوانا أو إلها فأخضع نفسه للقوانين والنظام ليعرف حقوقه، ولا يجور على حقوق الآخرين، ليتسنى له إنماء ملكاته الثقافية وإنتاج العلم والفن والفكر، وجميع مظاهر الحضارة التى تمثل كمال التطور الإنساني، والحرية الفردية الملتزمة بعدم الجور على حرية الآخرين، وعندما تتجه الدولة ـ بهذا المعنى إلى الانهيار بأفكار القرون الوسطى التى تجعل من قلة متطرفة شبه آلهة، تدعى معرفة ما يريده الإله وباقى الأفراد حيوانات، عليهم الخضوع لسلطانهم، وقمع أنفسهم تحت وصاية وحشية البرابرة الجدد، لابد أن تتوحد كل الجهود المخلصة للوطن، بالعمل على الحفاظ على الدولة الحديثة، ضد هجمة البرابرة، واستجماع القوى المادية والفكرية لصد الخطر الواضح الصريح لكيان الوطن، مما يجعلنا نتكاتف خلف مؤسسات الدولة، التى تتصدر المواجهة الشرسة، مع هذا التيار البربرى المدعوم خارجيا بكل وضوح، ويجعلنا أيضا نشك بكل ريبة فى الأفكار النقدية المقصورة على تشتيت الجبهة الداخلية للدولة، بعرض السلبيات وتضخيمها، دون تقديم بأى بدائل مرتبطة بالواقع، فالأحمق من ينصح فى الوقت الضيق كما يقولون، الوقت الراهن وقت الحفاظ على الدولة وفكرتها الحديثة، أما تطويرها وتنميتها فهى عملية مستمرة ومتغيرة، مرتبطة بالواقع التاريخي، حسب الظروف الداخلية والدولية التى تحكم تطورها، لا المنظومات الفلسفية التى انتهت صلاحيتها، وتعقد الفكر الوطنى فى أيديولوجيات متباينة بعيدة عن أصلها وفصلها.
الحدث المشهود حاليا يفرض علينا توجيه فن الشيخوخة، بما لها من خبرة وعلم، لإنقاذ الوطن بإنقاذ الدولة، من عقلية القرون الوسطى المتاجرة بالدين ومن عقلية التنظيرات الفلسفية البعيدة عن الواقع، لذا عودة المجالس القومية المتخصصة ضرورة عملية، لتجميع قوى شيوخ العلم فى مختلف المجالات، لرسم معالم الطريق علميا لصحة الدولة، ومن ثم لصحة الوطن، ليحتضن أبناءه بمعانى الحرية والمساواة، فى مجتمع حي، قابل للتطور حسب حدود الواقع، لا حسب الأفكار الجاهزة المعلبة للنظريات العقيمة لكافة الأيديولوجيين!
قد يرى الشيوخ أن من حقهم أن يركنوا إلى الراحة بعد شقاء العمر ولكن الراحة لا تجلب السعادة إلا بعمل ما، لذا يركز فن الشيخوخة على الأعمال التى تجلب الراحة والسعادة معا، وليس هناك ما يفوق من سعادة النجاح فى إنقاذ الوطن، من بربرية القرون الوسطي، واسترداد عافيته من داء الأيديولوجيات المتباينة الضار بصحة الوطن، بعد الاطمئنان على استقرار الدولة على أسس علمية حديثة، يحق للشيوخ أن يتفرغوا لسعادتهم الشخصية، بأعمال أخرى إيجابية، تتناسب مع مرحلتهم العمرية وتحتاج إلى أكثر من عمر، كما قال الفنان الراحل «مارلون براندو»!
تمتع «براندو» برفاهية استقرار الدولة، فتمتع بفن الشيخوخة، على طريقته الحضارية التى أعجبتني، وتستحق أن تروي، فبالإضافة إلى العمل الخيري، خصص وقتا من شيخوخته للمعرفة، فى مجالات بعيدة عن نطاق عمله طوال حياته، فتعرف على عالم الزراعة وجمالياته وأدواته، وانتقل إلى عالم البحار، ثم الفلك، وكان يتمنى أن يتسع العمر لاكتشاف عوالم أخرى تزخر بها الحياة، تجلب سعادة حقيقية، تختلف عن سعادة سطحية لا تدوم من راحة «اللا عمل» فكان يقول أحتاج لأكثر من عمر لأعرف القليل عن بعض الأشياء!
دروب المعرفة لا حصر لها من العلوم والفنون واكتساب المهارات اليدوية، فألوان الموسيقى والرسم وقراءة الأدب تشغلنا عنها الحياة العملية لاكتساب الرزق، وفى الشيخوخة يتاح الوقت للغرف منها، المهم أن يحمى الشيوخ أنفسهم من الزهد فى الحياة وإهمال مظهرهم والاستسلام للمرض والتجاهل لقيمتهم، بأن يكونوا هم مصدر العون والجمال لينشروا الحب فى محيطهم، لتنتهى حياتهم فى ذروة من ذروات السعادة!
أهم ذروة للسعادة فى حياة الشيوخ الإدراك والوعى بطبائع الناس والأحداث، فلا يغضبوا من أخطاء الآخرين، ولا تخدعهم التغيرات الثورية السريعة، غير القابلة للحياة والاستمرار، وبذلك يمثلون «رمانة الميزان» التى تضبط المجتمع.