بقلم - وفاء محمود
«وما الدنيا إلا مسرح كبير» هذا ما تكشفه الوقائع والأحداث اليومية والتاريخة على حد سواء، فكل منا يلعب دورا فى الحياة، ويحاول أن يرسم لنفسه صورة متخيلة فى أذهان الناس، عن طبيعة شخصيته وصفاته الإنسانية، ويحاول أن يجود هذه الصورة فى أحسن ما تكون، ليحظى باحترام الناس فى جميع أدواره الحياتية، فى المنزل والعمل والسكن والشارع، فالإنسان السوى يحرص على أن يظهر فى أفضل صورة، كالممثل على المسرح، الذى يحاول التقمص بكل طاقته لينال إعجاب الجمهور، ويتأثر بالجمهور الصامت، ويعمل له ألف حساب، والإنسان العاقل حياته سلسلة من الدخول على خشبات مسرح الحياة، فى اجتهاد مستمر ليحافظ على صورته التى يتمنى أن يراه الناس عليها.
مع عصر الفضائيات توارت النخب السياسية والثقافية العاقلة، وبرزت نوعية جديدة من القادة الاجتماعيين المؤثرين، بوسائل الاتصالات الحديثة، فى أكبر عدد من الجمهور، ولم يعد يقتصر الجمهور على القراء المتنورين، بل أخذ معه أعدادا مهولة من البشر، على اختلاف درجات استيعابهم وأمزجتهم، فأصبح للمذيعين سلطة جماهيرية غير مسبوقة، أو محكومة، إلا بنسب المشاهدة وجلب الإعلانات، فاجتهدوا فى لفت الأنظار، والإتيان بالغرائب من التصرفات والوقائع والحوادث، ليس إلا لزيادة نسب المشاهدة، وبعد أن كان الجمهور يتفرج على الغرائب والطرائف فى برنامج لعرض ما هو نادر وغريب، انقلبت حياتنا رأسا على عقب، وأصبحت الغرائب السلوكية واللفظية هى لب الحياة وسيدة الشاشة الصغيرة، ومواقع التواصل، وتبعها فوضى اجتماعية أدت لفوضى أخلاقية مرتبطة باللا معيارية السلوكية، وتشكلت خريطة جديدة بالمجتمع تتسم بالتفكك والتباين، وتنوعت مصادر التأثير، ليس بما تملكه من فكر ومواقف وطنية أو إنجاز عملى على أرض الواقع، ولكن بقدرتها على التمثيل على خشبة المسرح ولفت نظر أكبر عدد من الجمهور الصامت.
وبعد تعاقده مع شبكة (إم . بى . سي) أصبح الإعلامى (عمرو أديب) نجم نجوم الفضائيات، فاستطاع بخفة ظله على مسرح الفضائيات أن يكتسح الملعب الفضائي، وينال أعلى أجر للإعلاميين، وربما لجميع العاملين! فهذه الأرقام لم نعهدها من قبل، فاشتعلت تعليقات الناس تستنكر هذا التعاقد وتفرط فى عرض حيثياتها، وأن الشبكة الفضائية ما اشترت إلا (الترماي)، ومع احترامى لكل وجهات النظر والآراء، إلا أن لا أحد ينكر موهبة الإعلامى وتلقائيته التى جذبت الناس إليه، وفى زمن العرض والطلب لا عجب فالجمهور عايز كده!، وعلى الحاسدين أن يتذكروا المثل القائل: لو زرعت شجرة «لو كان» وسقتها بميه «ياريت» لطرحت «ما يجيش منه»!.
لا شك أننا فى مرحلة مضطربة اجتماعيا، وتعانى من أزمة بناء وخلل فى النسق الاجتماعي، فتنتسب الأسرة الواحدة إلى مراكز اجتماعية مختلفة، وتتبنى قيما ومعايير متناقضة، وذلك من أهم الموضوعات التى اهتم بها علم الاجتماع لدراسة التغير الاجتماعي، فى القيم والمعايير الثقافية، حيث يتغير نموذج السلوك المنتظم فى المجتمع، بعد آلاف التغيرات على المستوى «الميكروبيولوجى»، تؤدى إلى تغيرات فى الجماعة الأكبر، التى ينتمى إليها الأفراد، وأحدثت وسائل الاتصال الاجتماعى والفضائيات سلسلة لا متناهية من المتغيرات، بتـأثيـــرها المتـلاحـق، فانتـشــرت الأيديـــولوجيـــات الدينيــــــة واللادينية والقومية والإثنية، انتشار النار فى كومة من القش، فى أنساق اجتماعية هشة، فأحدث تضارب الأيديولوجيات خللا وظيفيا فى الأنساق الاجتماعية، التى كانت تبدو مستقرة، بفعل قبضة السلطة الحاكمة، وعندما اهتزت تلك القبضة، واخترقتها سلطة المعلومات والتبادل العجل المتسرع، أحدثت الخلل الوظيفى لأداء النسق كله، واضطراب علاقات الاعتماد المتبادل بين مكونات هذا النسق، التى رفضت بعضها البعض وتفشت أزمة الثقة واللا معيارية الثقافية، ويعبر عنها عندما نفاجأ بحدث ما يعطى قيمة لنخب جديدة، لا تحظى بالمعايير المعتادة، فى التقييم للمواهب الفذة فى الأدب والفن أو التحصيل الأكاديمى المجتهد، أو العمل الوطنى المنزهة، أو الإنجاز العملى المؤسسى المشهود له بالكفاءة والتميز.. وأصبحت القدرة على لفت الأنظار قيمة تسويقية فى مجتمع جديد منفلت فى طور تشكيل لبناء جديد أكثر استقرارا.
هذه الواقعة لفتت انتباهى إلى أمرين، كليهما يمثل نهاية التاريخ فى المنطقة العربية، نحو مجتمع أكثر حداثة واستقرارا، فليست الحداثة إلا نسقا اجتماعيا متوازنا مستقرا، بلا قهر اجتماعى من فئة على أخري، بتطبيق المنتجات الفكرية والعلمية للمفكرين والعلماء ثروة أى مجتمع.
نهاية التاريخ بمعني: أولا: نهاية سيطرة الأيديولوجيات بكل أنواعها، فعندما يحقق مذيع أكثر مشاهدة تجلب له أعلى الأجور، فهو بذلك ينهى عهد الدعاة والدجالين باسم الدين، الذين أقحموه فى تفاصيل الحياة الصغيرة بغشامة لا يحسدون عليها، وكذلك أنصار الثورة الدائمة، فاتجه الناس بتلقائية نحو النماذج التى لا تحمل أى دلالات أيديولوجية صراعية، لم تجد نفعا إلا الخراب الاجتماعي، والتخلف الإنساني، الذى جلب علينا سخرية الشرق والغرب على السواء!
ثانيا: نهاية التاريخ للتعلق بالإثارة ولغة التمرد على قواعد الأدب والذوق والحكمة، فالانتقادات الواعية لتعاقد الشبكة هذا، تكشف نفور الناس من أدوات التسخين والتهييج الشعبوية، وتبحث عن نخبة جادة محبة للحكمة فالفلاسفة ليسوا حكماء، ولكنهم مجرد محبين للحكمة، فالناس تتطلع إلى القادرين على تفعيل المعلومات المتاحة مجانا فى كل مكان، ولكنها بلا فائدة، إلا بنخبة قادرة على تطبيقها لخلق مجتمع المعرفة.. فهناك اتجاه عام نحو الكبار علما وخلقا، واللى ملوش كبير.. يشترى له كبير.. فما قامت الهوجات العربية إلا لحرماننا من النخبة القليلة العاقلة، لإرضاء الأيديولوجيين الصغار فكتبت بأيديهم نهاية التاريخ.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع