بقلم-زياد بهاء الدين
شاءت الظروف أن أكون فى طريقى إلى قرية «الدوير» بمحافظة أسيوط مع الإعلان عن تكليف الدكتور/ مصطفى مدبولى بتشكيل الوزارة الجديدة. وخلال ساعات الليل التى تهب فيها نسمات الصعيد الجافة لتخفف عن الناس حرارة اليوم المنقضى ومشقة صيامه، تركز حديث الحاضرين حول القضية التى تشغلهم جميعا وتطغى على كل موضوع آخر: قضية الغلاء.
غلاء العامين الماضيين أنهك الجميع ونزع عنهم غطاء الستر الذى يتلفح به المصريون حينما تضيق بهم السبل: الموظفون والمزارعون والمدرسون وأصحاب الاعمال الصغيرة والعاملون باليومية والعاطلون. لم يسلم أحد من موجة الغلاء العاتية، ولم يصمد أو يستفد سوى قلة محدودة للغاية. ولكن مع كل مشقة الحاضر فإن الخوف من المستقبل أكبر، ومن زيادات مرتقبة فى الأسعار قد تطيح بما بقى لدى الناس من قدرة على الاحتمال وتدبير الأمور.
لا أتصور ان هذه مخاوف صعيدية فقط، بل أظنها سائدة فى البلد عموما برغم التصريحات الرسمية بان معدل التضخم قد انخفض وسوف يستمر فى الانخفاض بعد موجة الغلاء الاخيرة. والواقع أن الناس معها كل الحق فى توقع الأسوأ، ليس بسبب الشائعات الإخوانية ولا الدعاية الأجنبية ولا المؤامرات الكونية، بل بسبب التأكيد المستمر على لسان المسئولين وفى وسائل الاعلام الرسمية بأن الحكومة القادمة سوف تستكمل ما بدأته الحكومة السابقة وأنها لن تحيد عن المسار الاقتصادى للعامين الماضيين، وهذا يترجم فى مفهوم الناس إلى مزيد من الغلاء ومزيد من الفقر.
ولكن ما البديل فى الظروف الراهنة؟ هل هو التراجع عن القرارات والسياسات التى انتهجتها الحكومة السابقة؟ أم الاستمرار فيها دون تغيير؟ أم أن هناك مسارا آخر يمكن سلوكه؟
بالتأكيد أن التراجع عن القرارات الكلية السابقة، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف وتخفيض دعم الطاقة وفرض ضريبة القيمة المُضافة، ليس مطروحا ولا ينبغى حتى اعتباره بديلا جديا، فهذه القرارات كانت صائبة وضرورية ولابد من الاستمرار فى مساندتها وتوعية الرأى العام بأهميتها. ولكن الواقع ان الحكومة السابقة قد نجحت فى تنفيذ هذه الإصلاحات الكلية، ولكنها أخفقت وتعثرت فى تنفيذ البرامج والسياسات العملية والتنفيذية التى كان يجب أن تواكبها لكى يستفيد الاقتصاد المصرى ومعه المواطنون من المزيد من الاستثمار والتشغيل والإنتاج. وبينما اكتفت الحكومة بشهادات النجاح والتقدير الدولية التى لم تبخل بها البنوك والمؤسسات المالية، فإنها تجاهلت أصوات شعبها ولم تنصت للشكوى من الغلاء والبطالة وتدهور الخدمات العامة، ربما اعتقادا بأن سكوت الناس وعدم خروجهم فى الشوارع للاحتجاج دليل على الرضاء أو الخنوع.
ما يحتاج الناس أن يسمعوه من الحكومة الجديدة ليس استمرارا فى ذات المسار الاقتصادى، بل تصحيحا له بما يحقق توازنا بين الإصلاحات الكلية الضرورية وبين السياسات التنفيذية اللازمة لتحقيق انتعاش اقتصادى وزيادة فى الانتاج وتوزيعا عادلا لثمار النمو.
ما يحتاجه البلد هو تشجيع الاستثمار الكبير والصغير بشكل جدى وفعال وليس بإصدار قوانين إضافية وفتح فروع وشبابيك جديدة لا تؤثر فى واقع المستثمرين. ويحتاج لتحديد وتوضيح دور الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية فى الاقتصاد لكى يسود مناخ استثمارى تنافسى وعادل بدلا من استمرار السيطرة الراهنة على جميع مجالات النشاط الاقتصادى، الاستراتيجى منها والتجارى. ويحتاج لإعادة تقييم برنامج المشروعات القومية العملاقة كى يتم توجيه موارد الدولة المحدودة نحو المشروعات والبرامج ذات الاولوية بالنسبة للناس وعلى رأسها الصرف الصحى والسكك الحديدية. ويحتاج سياسات صناعية واستثمارية تجذب الأموال الأجنبية والوطنية على حد سواء للقطاعات الإنتاجية التى تحقق استدامة وتخلق فرص عمل مستمرة بدلا من الاكتفاء بزيادة الاستثمار الأجنبى فى الأوراق المالية. ويحتاج وقفة أمينة ومخلصة فى التعامل مع الدين العام المتزايد كى لا ننقل عبء الإصلاحات الراهنة للاجيال القادمة. ويحتاج مناخا يتيح إطلاق طاقات الشباب فى الإبداع والتفكير والعمل بدلا من الاستمرار فى سياسة التضييق على كل المنافذ. باختصار البديل عن الوضع الراهن ليس رجوعا فى الإصلاحات الكلية وإنما مراجعة لمسار لا يزال من الممكن تصحيحه كى يكون معبرا عن مصالح وأولويات المواطن.
مع تمنياتى للدكتور/ مصطفى مدبولى وزملائه بكل التوفيق والنجاح فى مهمتهم الشائكة، وتحياتى للمهندس/ شريف اسماعيل على ما قدمه للوطن فى ظرف بالغ الصعوبة
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع