التقارير الدولية الصادرة طوال الأسبوع الماضى لم تأتِ بما يزيح السحابة السوداء الجاثمة على الاقتصاد العالمى، بل أضافت لكثافتها. أربعة عوامل لاتزال تسيطر على الساحة الدولية: استمرار الحرب فى أوكرانيا، استمرار اضطراب سلاسل الإنتاج العالمية، إغلاق بعض المدن الصناعية الصينية بسبب كورونا، والارتفاع المطرد لأسعار الطاقة ومواد الغذاء.
والنتيجة؟ توقعات النمو العالمى من جانب المؤسسات المالية الدولية انخفضت من 5.7٪ العام الماضى إلى 2.9٪ لهذا العام (أقل حتى من تقديرات إبريل الماضى بعد بدء الغزو الروسى)، والصين ستشهد انخفاضًا فى النمو من ٨٪ العام الماضى إلى ٤٪، ومتوسط معدل النمو فى أمريكا وأوروبا لن يتجاوز 2.5٪.
أما فى باقى العالم فالوضع أكثر سوءًا، حيث من المتوقع أن يزيد عدد من يواجهون الفقر المدقع (ليس المجاعة) بحوالى ٧٥ مليون شخص مقارنة بما قبل وباء كورونا، وأن يبلغ عدد اللاجئين من أوكرانيا ٧ ملايين، أما مهاجرو إفريقيا فيصعب تقدير عددهم، وإن كانوا فى ازدياد مطرد.
والوضع الاقتصادى العالمى لن يتحسن قريبًا- حتى لو انتهت الحرب فى أوكرانيا- لأن الاقتصادات الكبرى تواجه خطر ارتفاع الأسعار بشكل سريع فى ذات وقت انكماش النشاط الاقتصادى، وبالتالى انخفاض الإنتاج والدخول والحصيلة الضريبية ومعها الموارد المطلوبة للإنفاق العام.
الخلاصة أنه- مع استثناء الدول المصدرة للنفط- فإن الوضع العالمى خطير ولايزال فى بداياته، والمستقبل غير واضح المعالم، والبدائل المتاحة أمام الحكومات- كل الحكومات- محدودة وصعبة.
ونحن جزء من هذا العالم، ولكن هناك مع ذلك ما يمكن عمله للخروج من هذه المحنة، بل واقتناص الفرص والخروج بأفضل مما كنا. وأقول هذا دون التقليل من صعوبة المهمة التى تواجه حكومتنا ومسؤولينا فى هذا الظرف الحرج، وإليكم ما أقترحه:
علينا أولًا إدراك أن الحالة الراهنة خطيرة وممتدة، وأن الخروج منها بأقل الخسائر الممكنة يحتاج لتجاوز المناقشات والخلافات بشأن الماضى، وتوجيه الطاقات كلها نحو الحاضر والمستقبل لأن الوضع لا يحتمل ضياعًا للوقت ولا الجهد. والمستقبل هو الاستثمار والإنتاج ولا أى شىء آخر.
يلزم أيضًا التعامل مع الأزمة الراهنة من منظورها الإنسانى وليس فقط الاقتصادى، فهذا وقت الوقوف بجانب المواطنين ومساندة الكادحين والمهددين بالسقوط فى دائرة الفقر بكل الوسائل، حتى مع إرجاء تحقيق مستهدفات طموحة فى إدارة الموازنة العامة أو فى استكمال مشروعات كبرى، لأن الحفاظ على إنسانية وكرامة المواطنين فى هذه الظروف القاتمة هو الأهم.
أتمنى أيضًا أن يستوعب المسؤولون- والرأى العام معهم- أن هذا الإعصار لن تنجح فى مواجهته ولا حمايتنا منه ذات الأدوات المعتادة والتى كان نجاحها محدودًا حتى فى الظروف العادية. لن يصلح الحديث عن تعديل القوانين، ولا إرسال بعثات تجوب العالم، ولا تشكيل لجان دراسة مشاكل المستثمرين، ولا النظر فى إعفاءات ضريبية جديدة تأكل المزيد من مواردنا القومية.
الموضوع يحتاج لتعبئة حقيقية من كل أجهزة الدولة لتحقيق هدف واحد وهو الوقوف إلى جانب كل من يسعى للعمل والإنتاج والتصنيع والتصدير والتشغيل، لأن من يحافظ على قوة العمل اليوم- بل ويزيدها- يستحق أن يُعامل معاملة الأبطال.
نحتاج أيضًا لإغلاق الملفات المعلقة والمعطَّلة، فعليًا ونفسيًا، لتحقيقات لم تنتهِ، ومطالبات بلا قيمة، وملاحقات غير ذات جدوى، ولفتح أبواب التراخيص والموافقات خاصة لصغار المستثمرين، طالما ليس فيها ضرر معلوم للناس والبيئة والأمن العام، ولتخفيف قبضة البيروقراطية، ولحماية صغار المنتجين وكبارهم من الخوف والقلق الذى يُعطل المبادرات والاستثمارات.
وأخيرًا وليس آخرًا، نحتاج لشحذ كل الجهود وكل الأفكار والمبادرات المتاحة ليس فقط لتجاوز العقبات بل لاقتناص الفرص، نحتاج لفتح أبواب الاجتهاد فى الرأى وعدم الخشية من الحوار ومن الانتقاد، ونحتاج لاستعادة كل الخبرات والكفاءات المصرية لكى تشارك وتدلى برأيها، بما فيها المهاجر والمعزول والموقوف دونما سبب مقنع، ونحتاج لتواصل مع صغار المنتجين والمستثمرين من خلال جمعياتهم ونقاباتهم واتحاداتهم كى يشعروا بأن أجهزة الدولة تحميهم بدلًا من أن تلاحقهم.
نحن أمام تجربة كبيرة وصعبة، وثقتى كبيرة أننا سنخرج منها سالمين لو تضافرت الجهود ونجحنا فى إطلاق الطاقات الاستثمارية والإبداعية، وتعاملنا مع الأزمة الراهنة بتفكير جديد وأدوات جديدة.